(( امبراطوريه الفساد الجديده ))
حروب البترول الصليبيه والقرن الامريكى الجديد كثيرة هي الكتب التي تصدر في عالم اليوم ، لكن قليلة هي تلك المهمة والتي يورد فيها أصحابها حقائق تفيد في عملية تكريس الوعي الجيد لدى القراء ، ومن تلك القليلة هذا الكتاب بعنوان " حروب البترول الصليبية والقرن الأمريكي الجديد " .
مؤلف هذا الكتاب المدعو / عبدالحي يحيى زلوم ، مستشار عربي بارز لشؤون البترول منذ أكثر من 45 سنة. أنهى دراسته الجامعية الأولى والعليا في الهندسة والإدارة في الولايات المتحدة.
عمل في الولايات المتحدة وأوروبا، كما أسهم في الأعمال التأسيسية للعديد من شركات البترول الوطنية العربية في الخليج والعراق وإفريقيا ، كما أسهم في كافة مراحل التصميم والإنشاء والتشغيل لأول مشروع في العالم للتحطيم الهيدروجيني للمنتوجات البترولية الثقيلة .
وعمل مستشاراً لبعض المشاريع البترولية الهندسية والإنتاجية في الهند والصين . ترجمت كتبه إلى الإنجليزية والألمانية ومنها كتاب " نُذر العولمة " وكتاب " امبراطورية الشر الجديدة " .
والكتاب يتضمن مقدمة و14 فصلاً ، والفصول هي :
بداية النهاية : لماذا العراق؟ ولماذا الآن ؟ .
محاربة الارهاب.. الحروب الامريكية للسيطرة على النفط العالمي .
الاستيلاء على النفط العربي - خطوة خطوة .
موجز لتاريخ النفط العربي - نعم: النفط هو سلاح دمار شامل .
جذور الامبراطورية الامريكية العالمية خطط لها منذ الحرب العالمية الثانية .
الفريق السري - قوى الظل تدير النظام العالمي الامبراطوري الجديد .
الامبراطورية الامريكية - امبراطورية القواعد العسكرية .
اسرائيل " الشريك الاستراتيجي للامبراطورية الامريكية " .
الصهيونية والمسيحيون الصهاينة و" اسرائيل " ــ قاسمهم المشترك العداء للاسلام ــ .
اسرائيل" العنصرية - حقيقة استعمارية وليست نبوءة انجيلية " .
الحرب العالمية الرابعة ضد الاسلام .
الرأسمالية الامريكية المفترسة .
الامبراطورية المارقة .
نهاية الامبراطورية الامريكية اهـ . ( دار الخليج 8/5/2005 )
سجل أول ظهور للنفط في مدينة هيت قرب بغداد قبل حوالي خمسة آلاف سنة ، إلاّ أن صناعة النفط الحديثة بدأت بعد حفر البئر الأولى في ولاية بنسلفانيا عام ، 1859 ولقد تم تسخير النفط في الثورة الصناعية ليؤذن بولادة عصر النفط ، حيث أصبح العمود الفقري الجديد للرأسمالية إذ اعتمدت عليه الطاقة الكهربائية والمواصلات والزراعة والصناعة وكل نشاط حياتي .
ولأن الثورة الصناعية رافقتها غزارة في الإنتاج أصبحت بحاجة إلى أسواق ومستهلكين لضمان استمرار وتنامي النمو ، فإن الولايات المتحدة لذلك قررت السير على النهج الاستعماري عام ، 1898 فكانت الحرب الإسبانية الأمريكية التي سيقت لها مبررات تبين لاحقاً أنها كاذبة ، والتي أعطت المبررات لاحتلال المناطق الإسبانية القريبة والبعيدة إلى حد الوصول إلى الفلبين التي ظلت تحت الاحتلال الأمريكي لحوالي نصف قرن .
وعلى مستوى الولايات المتحدة ، تم خلق الثقافة الاستهلاكية التي تتحدى القيم التي تنادي بها سائر الأديان ، والضارة بالطبيعة والمدمرة للبيئة . وفي ظل القيادة الأمريكية ، شهد العالم أربع حروب عالمية ، كانت الأولى ضد ألمانيا والإمبراطورية العثمانية . والثانية ضد ألمانيا واليابان ، أما الثالثة فكانت في مواجهة الاتحاد السوفييتي في ما عرف بالحرب الباردة ، وجاءت الرابعة التي لا تزال قائمة ضد الإسلام .
وتأتي الحرب الأخيرة ضد الإسلام ليس بدافع الشعور الديني فقط لدى النخبة السلطوية التي تملك المال وتتحكم بالرأسمالية ، بل لأن الأطماع هي العامل المهم الذي يحرك هذه النخبة أيضاً . فقد شاءت حكمة الله تعالى أن يوجد معظم نفط العالم تحت أرض المسلمين (1)، في وقت أصبح النفط يشكل العمود الفقري للرأسمالية وعصر النفط الذي يغذيها .
بعد الانتصارات التي حققتها الولايات المتحدة في الحروب العالمية الأولى والثانية والثالثة (الحرب الباردة) لمصلحة الرأسمالية ، بدأت الرأسمالية الأمريكية الأنجلو ساكسونية في التسعينات بمهاجمة سائر الأشكال الرأسمالية الأخرى ، وبخاصة الرأسمالية الاشتراكية الأوروبية ، وكذلك النموذج الرأسمالي الياباني ، الذي تحول في نظر الوول ستريت وعلى حين غرة إلى كونه " الشيوعية الوحيدة التي تعمل بكفاءة " . ووجدت اليابان وكذلك أوروبا الغربية أن عليهما " إعادة اصلاح " أنظمتهما طبقاً لتعليمات واشنطن .
بعدها جاء الدور على المسلمين ، الذين تحولوا إلى الهدف التالي لهجمة الرأسمالية الأمريكية في القرن الحادي والعشرين ، وصولاً إلى إفساد قيم المسلمين ، والتربع فوق حقولهم النفطية ، حيث إنه لم يصبح كافياً مجرد التحكم بها .
ويرى البعض أن مثل هذا الهدف يتطلب شن حرب مستمرة ، غير أن الحرب هي اسم اللعبة التي تعرفها وتمارسها النخبة الرأسمالية . وفي هذا الشأن كتب رودريك بريثويت Roderick Braithwaite الرئيس السابق للجنة الاستخبارات المشتركة البريطانية في " الفاينانشيال تايمز " يقول : " تجار السمك لا يجيدون سوى بيع السمك ، وتجار الحروب لا يتقنون سوى تسويق الحروب ، وكل منهما مؤمن بتجارته " .
وهذا ما يفعله جورج بوش بالضبط عندما وصف نفسه بالقول : " أنا رئيس حربي " .
" النفط هو الهدف "
يدرك المسلمون تماماً أن هدف أمريكا من مهاجمة أراضيهم هو الاستيلاء على نفطهم ، ويعلمون بأن أمريكا تقاتل من أجل الذهب وليس من أجل الله ، وبأن أمريكا عندما غزت هايتي في عهد الرئيس المتدين ويلسون عام 1915 بررت فعلتها ، وكما حصل في العراق بعد تسعين عاماً تقريباً ، بنشر الديمقراطية والحرية (2) ، وقتها لعب مساعد وزير البحرية فرانكلين روزفلت Franklin Roosevelt - الذي أصبح لاحقاً رئيساً للولايات المتحدة لثلاث فترات - دوراً أساسياً في صياغة الدستور الجديد لهايتي ، والذي أدى إلى توقيع معاهدة مع الولايات المتحدة تسمح للأمريكيين بالبقاء في الجزيرة . وهكذا ، وطوال العشرينات ، كانت أمور هايتي تدار من قبل جنرال أمريكي من مشاة البحرية المارينز بالتعاون مع رئيس صوري اختارته واشنطن .
الآن وبعد تسعين عاماً من الوقوع تحت الهيمنة الأمريكية ، تُعد هايتي واحدة من أفقر دول العالم ، بمعدلات بطالة تصل إلى 70% ، وانتشار الأمية بين السكان والتي تصل إلى 55% ، ومعدل دخل للفرد لا يتجاوز 440 دولاراً سنوياً.
مشكلة المسلمين ليست مع المواطنين الأمريكيين ، على اعتبار أن معظم هؤلاء يعانون أنفسهم من تجاوزات نظامهم الرأسمالي ، بالقدر نفسه من معاناة العالم منه . يستهجن المسلمون حقيقة وجود 40 مليون أمريكي يعيشون تحت خط الفقر ، في وقت تُعد فيه أمريكا واحدة من أغنى دول العالم ، كما لا يتقبل المسلمون اللاعدالة في التوزيع المثير للثروة في الولايات المتحدة ، حيث يستأثر 1% من كبار أغنياء أمريكا بأكثر مما يملكه 80% من أبناء وطنهم مجتمعين .
يؤثر عن جيمس ماديسون James Madison ، أحد رؤساء أمريكا الأوائل القول : " إن أكبر المصاعب التي تواجه الحرية الأمريكية تكمن في حقيقة أن ( عليك أن تمكن الحكومة من السيطرة على الرعية أولاً ومن ثم إجبارها على السيطرة على نفسها بعد ذلك ) " .
فبعد مرور أكثر من قرنين على ولادتها ، نجحت الجمهورية الأمريكية في السيطرة وبتفوق على الرعية ، إلاّ أنها فشلت وبصورة بائسة في لجم نفسها . ومما قاله ماديسون بهذا الشأن : " إذا ما وصل الاستبداد والقمع إلى هذه البلاد ، فسيأتي في زي محاربة عدو أجنبي " .
الواقع أن الرؤساء الأمريكيين ، بدءاً من جورج واشنطن وحتى جورج دبليو بوش ، لم يتوقفوا عن اثارة قضايا الحرية في خطابهم الإعلامي ، إلاّ أن هناك فرقاً شاسعاً بين الواقع ولغة اثارة المشاعر . ففي القرن العشرين ، وجد الرئيس وودرو ويلسون Woodrow Wilson في الحرية هدفاً للحرب العالمية الأولى عندما أعلن أنها : " الحرب التي ستنهي كل الحروب " . وكانت الحرية الحجة نفسها التي ساقها الرئيس فرانكلين روزفلت لتبرير دخول أمريكا الحرب العالمية الثانية ، ولم يختلف الرئيس ترومان Trueman عن سابقيه في التركيز على الحرية لتبرير الحرب العالمية الثالثة أو الحرب الباردة .
والآن جاء دور جورج دبليو بوش في تبرير الحرب العالمية الرابعة على حد تعبير مدير السي.آي.ايه. C.I.A السابق جيمس ولسي James Woolsely ، والتي اختارت الإسلام والمسلمين هدفاً لها هذه المرة . ولكن تحت اسم الحرب على الإرهاب لأغراض التسويق السهل في أمريكا والخارج . وتنص عقيدة بوش على أن القيم الأمريكية والنموذج الأمريكي صالحان لكل زمان ومكان وللجميع على وجه الأرض ، وتطالب العقيدة الجميع بالاختيار : " إما أن يكونوا مع هذه القيم وينضووا بالتالي تحت تصنيف الأخيار ، أو أن يكونوا ضدها ليستحقوا بذلك صفة الأشرار ويتم التعامل معهم على هذا الأساس " .
ووعد بوش بالحروب الوقائية لفرض مفهومه للحرية ، أو هو فعلياً الرأسمالية على الطريقة الأمريكية على ما يتم تصنيفهم بالأشرار ، وسيتم إيصال الرسالة الأمريكية هذه محملة على متن صواريخ كروز .
صامويل هنتنغتون يأتي من صلب النظام الأمريكي ، فهو بالإضافة إلى كونه أستاذاً في جامعة هارفارد ، يُعد من مجموعة الأمن القومي المتنفذة في كل الإدارات الأمريكية ، وخدم في البيت الأبيض في مجلس الأمن القومي ، كما أوكلت إليه مهمة الترويج لصراع الحضارات منذ العقد الأخير من القرن العشرين .
وجاء في كتابه " صراع الحضارات " الملخص المفيد لما يُفكر فيه المحافظون القدامى والجدد ، وسائر الإدارات الأمريكية وإن اختلفت لهجاتها وأقوالها لا أفعالها . بعد دراسات مطولة لعدة سنين شملت جميع أقطار العالم الإسلامي وسائر المنظمات والأحزاب والهيئات السياسية الإسلامية ، كما جاء في ص 217 من كتابه " المشكلة الحقيقية للغرب هي ليست الأصولية الإسلامية ، إنه الإسلام .هذا الدين ذو الحضارة المختلفة ، والذي يتيقّن معتنقوه من تفوقهم الحضاري في وقت هم محبطون فيه من قلة نفوذهم ، ليست مشكلة الإسلام والمسلمين هي وكالة المخابرات المركزية ولا وزارة الدفاع الأمريكية ، المشكلة لهم هي في الغرب ذي الحضارة المختلفة ، وشعوبه المقتنعة هي الأخرى بعالمية حضارتها ، مع اعتقادهم بضرورة نشر هذه الحضارة في ارجاء المعمورة كافة . هذه هي عناصر الصراع بين الإسلام والغرب " .
" النموذج الأمريكي "
تكمن المشكلة بالنسبة للولايات المتحدة في حقيقة أن معظم العالم لا يوافقها على الافتراض القائل إن النموذج الأمريكي صالح للجميع ، بل الأسوأ من ذلك ، أن معظم العالم لا يعتقد بأن هذا النموذج صالح للأمريكيين أنفسهم . ويظهر استطلاع للرأي أعدته هيئة الإذاعة البريطانية في يناير/كانون الثاني ، 2005 أن 58% من الأجانب الذين تم استطلاع آرائهم يرون في إعادة انتخاب بوش " تهديداً للسلام العالمي" . ولعل الملاحظة الأهم في هذا الاستطلاع هي أن الرقم أعلى بكثير بين مواطني الدول الحليفة التقليدية للولايات المتحدة ، حيث وصل إلى 77% في ألمانيا، و64% في بريطانيا ، و82% في تركيا ، وفي العالم الإسلامي فإن التأييد لأمريكا والقيم الأمريكية أقل من 10% في معظم البلدان .
وجاء في تقرير للصحافي اندرو مورافيسك Andrew Moravcsik نشرته النيوزويك Newsweek بتاريخ 31 يناير ، 2005 أن الإحصائيات والحقائق تفضل النماذج غير الأمريكية ، مثل النموذج الأوروبي والنموذج الياباني اللذين يُعدان أكثر ديمقراطية ويوفران غطاء أفضل من الرعاية الاجتماعية والتعليم والرخاء المعيشي . فالأوروبيون يعملون لساعات أقل ، ويتمتعون بإجازات أطول ، ويغمرهم شعور أقوى بالقناعة ، وهم أقل مدعاة للقلق من الأمريكيين الغارقين في الديون . غير أن هذه النماذج بدأت تشكل هدفاً للهجوم الأمريكي ، وبخاصة بعد انهيار الشيوعية وذلك رغبة من واشنطن بفرض نموذجها الرأسمالي وقيمها على الجميع .
وهنا نترك الحديث للأرقام والإحصاءات كما جاء في تقرير النيوزويك ، حيث ورد القول : " بالرغم من ثرائها ، فإن الولايات المتحدة تصنف من بين الدول الفقيرة فيما يتعلق بمعايير الرخاء الاجتماعي . ففي الولايات المتحدة ، تصل معدلات الفقر بين فئة الأطفال إلى 4.22% مقارنة ب 1.5% في الدنمارك و4.4% في بلجيكا و3.4 % في فنلندا و9.3% في النرويج و6.2% في السويد . وفيما يتعلق بالعدل في توزيع الدخل ، تحتل الولايات المتحدة المركز الحادي والسبعين ، في حين احتلت الدنمارك واليابان وجمهورية التشيك وفنلندا المراكز الأربعة الأولى على التوالي " .
ويلاحظ أن النموذج الاقتصادي الأمريكي يتركز حول التجمع الصناعي العسكري ، الذي قسم غنائم غزو العراق حتى قبل حدوثه . وطبقاً للمنتدى الاقتصادي العالمي ، 2004 فإن أفضل خمسة اقتصادات أداءً وقدرة على التنافس كانت من نصيب أوروبا ، بل إن فنلندا بنظامها الاشتراكي الديمقراطي ، حلت في المركز الأول . وفي العام الماضي استطاعت شركة إيرباص الأوروبية للصناعات الجوية التغلب على بوينج في حجم مبيعات الطائرات التجارية .
" تأثير الصحافة "
أما بالنسبة للديمقراطية ؛ فإن الانطباع السائد لدى الأوروبيين ومعظم العالم أن المال هو صاحب اليد العليا في النظام الأمريكي . فهؤلاء القائمون على أكبر خمس مؤسسات إعلامية في أمريكا ، أو ما يسمى زيفاً بالصحافة الحرة ، يستطيعون التأثير على الرأي العام في أقرب ما يكون لعملية غسيل الدماغ ، من خلال التركيز على رسالة معينة يتم بثها مراراً وتكراراً في عموم الولايات المتحدة ، مع التضييق على الآراء البديلة ما أمكن . ومن الجدير ذكره أن دراسة أندرو ومورافيسك ظهرت فقط في الطبعة الدولية ، ولم يتم نشرها داخل الولايات المتحدة ، الأمر الذي دفع الكثير من الأمريكيين في الخارج للكتابة للمجلة استفساراً عن سبب عدم نشر مثل هذه المعلومات المهمة داخل الولايات المتحدة .
وبالنسبة للكثيرين حول العالم ، وأن الديمقراطية الأمريكية تقوم على مبدأ " دولار لكل صوت " وأن من يملك الدولارات هو الذي يملك الأصوات ويملك واشنطن وحكومتها أيضاً . ولعل في عزوف الناخبين الأمريكيين عن المشاركة في العملية الانتخابية ما يعكس مدى الاستياء والاحباط اللذين يشعر بهما الأمريكيون تجاه النظام السياسي لبلادهم ، وبالمقارنة ، فإن نسبة الإقبال على الانتخابات الأمريكية الأخيرة كانت بحدود 6.46% فقط ، مقابل 8.73% في إسبانيا، و2.83% في بلجيكا ، و9.84% في إيطاليا، و 86،2% في آيسلندا ، و 89 % في اليونان. وعليه يصبح من الواضح أن مثل هذا النظام ليس " مخولاً من السماء " بنشر قيمه ، وبأنه بالتأكيد لا يمثل آخر الأنظمة في التاريخ كما يدعي البعض ، بل إنه أقرب إلى بداية النهاية لمرحلة استعمارية.
إذا كانت شعوب العالم تتطلع إلى الحرية الحقيقية والتخلص من الفقر والمرض واستغلال الشركات العالمية ، فإن الرأسمالية الأمريكية التي يتم تسويقها باسمها المزيف وهو الحرية ، لا تصلح للجميع وفي كل مكان كما يدعي أصحابها ، بل إنها تشكل الداء نفسه بدلاً من أن تكون الدواء لهذه الشعوب .
بعد اكتشاف النفط في المكسيك في أوائل القرن العشرين وما ترتب عليه من تدخلات أمريكية في ذلك البلد ، صدر عن الرئيس المكسيكي بيرفيريو دياز Pirfirio Diaz مقولته المشهورة : " مسكينة هي المكسيك لأنها بعيدة جداً عن الله وقريبة جداً من الولايات المتحدة " . والآن أصبحت الولايات المتحدة ، وبفضل سلسلة قواعدها العسكرية وصواريخها ، جارة للجميع .
المشكلة لا تكمن في جورج دبليو بوش أو ليندون جونسون أو في هذا الرئيس أو ذاك ، المشكلة في الواقع هي في الرأسمالية الأمريكية الانجلو ساكسونية المفترسة ، التي تعاني من سرطان في روحها .
الرأسمالية الأمريكية نفسها حالياً في ورطة ، فمن جهة يعتمد الاقتصاد الأمريكي على النمو ، والذي يستند بدوره وبصورة أساسية على النفط ، هذا المنتج الآيل للنضوب ، ويعتقد العديد من العلماء والمستشارين ، بمن فيهم مؤلف هذا الكتاب ، بأننا نمر في مرحلة من التاريخ تشهد وصول الإنتاج النفطي إلى ذروته ، ونحن على وشك الدخول في هذه المرحلة التي تؤذن ببدء انحدار عصر النفط . وفي ظل عدم توافر البديل للنفط حالياً ؛ فإن روح الرأسمالية تعاني من التهديد ، وهكذا فإنها تسير حالياً على طريق المواجهة مع الطبيعة حيث النتيجة لا تحتمل التخمين .
نعيش في عصر الانهيارات المفاجئة للأنظمة الصغيرة مثل الشركات ، كما حصل مع شركة LTCM وشركة Enron ، وكذلك الإمبراطوريات كما حصل مع الاتحاد السوفييتي . لم يعد السؤال ما إذا كانت إمبراطورية الرأسمالية الحديثة ستنهار أم لا بل متى ستنهار ؟ فالانهيار أمر مؤكد كما سبق أن توقع ابراهام لينكولن قبل 150 عاماً ، فجذور الانهيار موجودة في لهفة النخبة الرأسمالية الأمريكية وطمعها .
وكما يقول الزعيم والفيلسوف الهندي غاندي Ghandi : " العالم يملك ما يكفي احتياجات الجميع ، إلاّ أنه لا يحتمل تلبية طمع الجميع " .
كما أن واشنطن بحاجة إلى تعلم الكثير من زعيم الحرب المنغولي جنكيز خان ، الذي سبقها في احتلال بغداد قبل عدة قرون ، عندما توصل إلى نتيجة لخصها في القول : " بإمكانك احتلال العالم من على ظهر حصان ، ولكنك لا تستطيع حكم العالم من على ظهر حصان " .
بداية النهاية.. لماذا العراق؟ ولماذا الآن ؟
ينظر البعض من أبرز العلماء وكبار الاستشاريين في الشؤون النفطية إلى مستقبل النفط بكثير من التشاؤم ، إلى حد وصفه بالوضع الميئوس منه ، الأمر الذي يشكل " أخطر قضية يواجهها العالم في الوقت الحالي " ، بل ان تشاؤم البعض يصل إلى حد توقع نهاية مفاجئة للتقدم الحضاري الحالي القائم أساساً على النفط .
مثل هذه الحقيقة لا تغيب عن بعض قادة العالم السياسيين ، الذين يعترفون بها في مجالسهم الخاصة ، وكذلك في دراساتهم وتقاريرهم السرية . عندما كان لا يزال على رأس أكبر شركة لخدمات النفط في العالم " هاليبرتون " Halliburton، تحدث نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني ###### Cheney في اجتماع مغلق نظمه المعهد البريطاني للبترول لندن في خريف 1999 عن هذا الموضوع ، ومما جاء في حديثه القول : " من الواضح لنا جميعاً بأن إنتاج النفط آيل للنضوب، ولهذا يترتب استكشاف المزيد من الاحتياطات النفطية وتطويرها كل عام بما يعادل حجم الإنتاج في ذلك العام، وذلك لتحقيق التعادل المطلوب، وهي حقيقة لا تمس الشركات النفطية فحسب ، بل تمس القطاع الاقتصادي على مستوى العالم بشكل عام . وعلى سبيل المثال ، فإن شركة نفطية مثل ايكسون موبيل Exxon-Mobil مطالبة بتأمين احتياطات نفطية جديدة بحجم 5.1 مليار برميل سنوياً لتعويض حجم إنتاجها السنوي الحالي.. الأمر هنا أشبه بمن يتقاضى فوائد مالية بنسبة 010% ، وهذا يعني استكشاف حقل نفطي رئيسي جديد بحجم 500 مليون برميل كل أربعة أشهر .أما على المستوى العالمي ، فإن الشركات النفطية مطالبة باستكشاف ما يكفي من النفط واستخراجه لتعويض الاستهلاك السنوي الذي يتجاوز حالياً 71 مليون برميل يومياً ، بالإضافة إلى تلبية الزيادة على الطلب الآخذ في التعاظم ، والذي تضعه بعض التقديرات بحدود 2% سنوياً ، يضاف إليها 3% هي نسبة التراجع الطبيعي في الإنتاج من الاحتياطات الحالية، وهذا يعني أننا سنجد أنفسنا عام 2010 بحاجة إلى 50 مليون برميل إضافية يومياً لتلبية الزيادة في الاستهلاك العالمي من النفط " .
ويضيف تشيني قائلاً : " في الوقت الذي توفر فيه بعض المناطق في العالم فرصاً حقيقية، يظل الشرق الأوسط بما يملكه من ثلثي حجم الاحتياط العالمي من النفط، يشكل منطقة الجائزة الكبرى، ومع أن الشركات النفطية تواقة لتعزيز وجودها هناك، إلاّ أن ما يتم إحرازه من تقدم في هذا المجال يغلب عليه البطء الملحوظ " .
فطبقاً لحسابات تشيني فإن حجم الزيادة من الاستهلاك من النفط عام 2010 سيتطلب اكتشافات جديدة تقوم بإنتاج ستة أضعاف ما تنتجه المملكة العربية السعودية في الوقت الحاضر .. وهو أمر لن يتحقق كما تؤكد الدراسات كافة .
توقعات ديك تشيني قام بتكرارها هاري لونغويلHarry Longwell، مدير ونائب الرئيس التنفيذي لشركة ايكسون موبيل ، الذي كتب في مجلة وورلد انييرجي World Energy ( لعدد 3 لعام 2003 ) يقول : " الفكرة الأساسية هنا هي أن ازدياد الطلب على النفط يقابله نضوب في الإنتاج الحالي . وبلغة الأرقام ، تشير التوقعات إلى أنه بحلول عام 2010 سيحتاج العالم إلى رفع الإنتاج بمعدل يزيد على نصف حجم الإنتاج الحالي لتلبية الزيادة المتوقعة في الطلب على النفط ، هي زيادة تفوق قدرة المنتجين الحالية ، الأمر الذي يشكل تحدياً كبيراً لهم " .
أما جون ثومبسون John Thompson رئيس شركة ايكسون موبيل للاستكشاف ، فقال أمام اجتماع للهيئة العمومية عام 2003: " بحلول عام 2015 سنكون في وضع يحتم علينا استكشاف كميات من النفط والغاز وتطويرها وإنتاجها ، تعادل 80% من حجم الإنتاج الحالي " .
وهو الرقم نفسه الذي أورده تشيني من قبل . وجاء تقرير لجنة دراسة الطاقة التي أمر بتشكيلها تشيني نفسه بعد أن أصبح نائباً للرئيس ونشر عام ، 2001 جاء على القدر نفسه من التشاؤم والتحذير ، حيث جاء في التقرير : " الفرق الأهم بين الحاضر وما كان عليه الوضع قبل عقد من الزمان هو التآكل السريع وغير العادي الحاصل للطاقات الاحتياطية في بعض قطاعات سلاسل الطاقة، وبخاصة في قطاع النفط " .
أما وزير الطاقة الأمريكي سبنسر ابراهام Spencer Abraham فيقول في هذا الشأن : " ستواجه أمريكا أزمة رئيسية في إمدادات الطاقة على مدار العقدين القادمين ، وأي فشل في مواجهة هذا التحدي من شأنه أن يهدد ازدهارنا الاقتصادي ويعرض أمننا القومي للخطر ، وسيكون له أثره الكبير في إحداث تغيرات جذرية في حياة الأمريكيين " .
نجد في الفصل الثامن من وثيقة السياسة الوطنية للطاقة ، الصادرة عن مجموعة تطوير السياسة الوطنية للطاقة التي يرأسها ديك تشيني إشارة واضحة إلى أهمية الشرق الأوسط كمورد نفطي رئيسي إن لم يكن الأهم في العالم . ومما جاء في الوثيقة القول : " من المتوقع أن تنتج دول الخليج ما بين 54 و67% من النفط العالمي بحلول عام ، (0 2 0 2 ) الأمر الذي يستمر معه الاقتصاد العالمي في الاعتماد على نفط الدول الأعضاء في منظمة أوبك OPEC وبخاصة دول الخليج.. ولهذا ستبقى هذه المنطقة حيوية بالنسبة للمصالح الأمريكية " .
يتوقع الخبراء بأن يتراوح سعر البترول بين 50 إلى 60 دولاراً للبرميل لسنة ، 2005 ولربما لسنة 2006. إلاّ أنه مع ازدياد الفجوة ما بين العرض والطلب قبل دخول محطات توليد طاقة نووية قبل سنة ، 2010 فإن السعر عندئذٍ سيصل إلى ما بين 100 و105 دولارات للبرميل . تبدو هذه الأرقام شبه خيالية ، لكنها ليست كذلك ، فلقد كان سعر البترول في سنة ،1980 معدلاً بدولار اليوم ، يساوي 75 دولاراً للبرميل .. ذلك قبل ربع قرن حين كانت هناك وفرة في الإنتاج .
إذا كان نصيب أوبك ، وبسعر 100 دولار للبرميل ، 35 مليون برميل في اليوم فذلك يعني أن بترول أوبك سيتيح فرصة لمطابع الدولار الأمريكية أن تطبع 3500 مليون دولار يومياً ، مادام الدولار هو العملة الوحيدة للمتاجرة بالبترول . إن مجرد السماح بتحويل تسعير البترول من الدولار إلى عملات أخرى ، سيكون بمثابة سلاح دمار شامل للاقتصاد الأمريكي والامبراطورية الأمريكية . نعم : سلاح دمار شامل ! .
" احتلال نفط العرب والمسلمين "
في تقريرها الصادر في أبريل/نيسان ، 2004 نشرت إدارة معلومات الطاقة En ergy Information Administration توقعاتها الخاصة بحجم إنتاج منطقة الشرق الأوسط من النفط للسنوات العشرين المقبلة : ( انظر الجدول ) :
وطبقاً للتقارير ، فإن حجم إنتاج دول الخليج من النفط لعام 2001 كان يمثل 29% من إجمالي الإنتاج العالمي ، في حين أن التوقعات ، كما يوضح الجدول أعلاه ، تشير إلى أن حصة دول الخليج سترتفع إلى 60% من الإنتاج العالمي بحلول عام ، 2025 مما يعني بأن الحياة الاقتصادية للولايات المتحدة ستعتمد وبشكل كبير على الشرق الأوسط ، وكذلك الأمر بالنسبة لنجاح أجندتها الخاصة بالرأسمالية والعولمة والامبراطورية ، ولهذا لم تعد الهيمنة على المنطقة بالوكالة بواسطة الأصدقاء أو العملاء كافية بحد ذاتها ، بل حان وقت الاحتلال المباشر ، وقد وقع الاختيار على العراق لتوافر ظروف مواتية جعلت من هذا البلد الضحية الأولى والأسهل للمخطط الأمريكي الكبير .
وعودة إلى التقرير الصادر عن لجنة دراسة الطاقة ، التي أمر ديك تشيني بتشكيلها ، والصادر في أبريل/ نيسان 2001 (قبل هجمات 11 سبتمبر/ أيلول ) ، فإن التقرير يتحدث عن خطط أمريكية للتعامل مع مشكلة النقص المتوقع في الإمدادات النفطية . فبعد توضيح حقيقة أن الشعب الأمريكي مستمر في المطالبة بتوفير كميات وافرة من النفط الرخيص ، من دون الاستعداد لتقديم أي تضحيات أو تقديم أي تنازلات في هذا الشأن ، ينتقل التقرير إلى القول إن أمريكا تبقى أسيرة معضلة الطاقة ، الأمر الذي سيدفعها إلى الإقدام على " التدخل العسكري " لتأمين إمداداتها النفطية .
وكان عدد من الأشخاص القلقين من التطورات القادمة قد بدأوا يحذرون من العواقب السياسية ، التي ستترتب على النقص المتوقع في الإمدادات النفطية ، التي لن تلبي الاحتياجات المتصاعدة .
ومن بين هؤلاء جاي هانسون Jay Hanson الذي توقع عام 1997 : " أن تشهد الأعوام الأولى من القرن الجديد تراجعاً في قدرة الإنتاج النفطي على تلبية الطلب العالمي ، وبأن الولايات المتحدة ستغزو العراق تحت مبررات زائفة وتستولي على حقوله النفطية وتقيم حكومة احتلال " .
وكانت المجموعة نفسها التي تضم هانسن قد تحدثت عام 1995 عن توقعات مماثلة منها : " بعد بضعة أعوام ، وتحديداً عام ، 2000 يكون الإنتاج النفطي العالمي قد وصل ذروته ؛ ليبدأ بعدها رحلة التراجع أمام تعاظم الطلب العالمي على النفط ، الأمر الذي سيدفع الولايات المتحدة إلى شن حرب عالمية تستهدف بشكل خاص الهيمنة على الدول النفطية المسلمة " .
" ستسجل أسعار النفط ارتفاعات غير مسبوقة بحلول صيف 2004 "
ستعمد دول أوبك إلى تخفيض إنتاجها في ذلك التاريخ لتغطية حقيقة التراجع الحاصل في قدرة حقولها النفطية. ستبدأ الولايات المتحدة تطبيق قوانين غير ديمقراطية (فاشية الطابع ) للسيطرة على ردة فعل الشارع الأمريكي تجاه الصدمات النفطية القادمة .
أما وزير البيئة البريطاني مايكل ميتشر Michael Meacher ، فقد صرح أخيراً لجريدة " الفاينانشال تايمز " من الصعب حصر العواقب المترتبة على أي تراجع في الإمدادات النفطية على الاقتصاد الحديث وعلى المجتمع المعاصر . فالعواقب أكبر وأخطر من أن يستوعبها العقل " .
أما الدكتور كولن كامبلColin Campell فقد أدلى بشهادته أمام مجلس العموم عام ، 1999 حيث قال : " وصلت الاستكشافات النفطية الجديدة الى ذروتها في الستينات ، أما الآن فنحن نعثر على برميل واحد مقابل كل أربعة براميل نستهلكها " .
" معضلة العولمة والامبراطورية الأمريكية "
المشكلة التي يتحدث عنها الأمريكيون ليست في نضوب النفط ، لأن أمامنا عدة عقود قبل أن تتحقق حسابات الخبراء هذه. فالمشكلة الملحة والخطيرة ، التي نحن بصددها ، هي في العجز عن تحقيق التوازن بين الإنتاج والطلب المتعاظم على النفط .ففي الاقتصاد الذي يعتمد على عامل النمو ، كما هو الحال مع الرأسمالية ، فإن القصور في الإنتاج مقارنة بالطلب بنسبة 1 - 5% من شأنه أن يتسبب بحالة ركود ، وإذا ما ارتفعت النسبة من 5-10% ، فإن العالم سيشهد أسوأ ركود في التاريخ ، أما إذا ازدادت النسبة على هذه المعدلات فستكون النتيجة كارثة بمعنى الكلمة ، إلاّ انه ما ان يتجاوز العالم مرحلة ذروة الإنتاج لتبدأ مرحلة التراجع ، تصبح الزيادة السنوية في الطلب بمعدل 2% مقابل تراجع في الإنتاج بالنسبة نفسها ، سبباً لحدوث تغيرات اقتصادية خطيرة . وفي هذه المرحلة تحديداً تجد الولايات المتحدة نفسها مدفوعة للتحرك للسيطرة على حركة السوق النفطية من حيث توزيع الكميات وسقف الأسعار ، وهي سيطرة لا تأتي بدون احتلال فعلي لمنابع النفط ، ليس في العراق فقط ولكن في دول الخليج الأخرى ، ولهذا السبب نجد الأمريكيين الآن في العراق .. التي لن تكون الدولة الأخيرة التي تتعرض للاحتلال كلما سنحت الظروف للولايات المتحدة بذلك .
وتشير تقديرات المعهد الياباني لاقتصاديات الطاقة ، إلى أن الطلب على النفط من قبل الدول الآسيوية ، باستثناء اليابان ، سجل ارتفاعاً من 2.5 مليون برميل إلى 1.8 مليون برميل ، ومن المتوقع أن يتضاعف طلب دول آسيا على النفط ، مسجلاً أرقاماً قياسية بحلول عام ، ( 0 2 0 2 ) يصل إلى 25 مليون برميل يومياً سيتم ، الحصول عليها من مصدر واحد هي حقول الشرق الأوسط النفطية .
عندما قررت الولايات المتحدة السماح لليابان بالعودة إلى التصنيع بعد إعلان استسلامها في الحرب العالمية الثانية ، قال جورج كينان George Kenan ، صاحب سياسة الاحتواء في سنوات الحرب الباردة ، إن باستطاعة اليابان تصنيع ما تشاء ما دامت الصمامات التي تتحكم بتدفق النفط ، الذي يغذي الصناعة اليابانية في أيدي الأمريكيين . وكذلك اليوم ، فإن أمريكا لا تشعر بالقلق تجاه التقدم الحاصل في الحركة الصناعية لكل من الصين والهند ما دامت الولايات المتحدة تقبع فوق حقول نفط الشرق الأوسط ، وتسيطر على الصمامات القادرة على إغلاق إمدادات النفط لهذه الدول .
وتحتفظ الولايات المتحدة الآن بقواعد عسكرية وتتحكم بطرق شحن النفط ، بدءاً من الخليج وانتهاءً بالصين ، كما لم تغفل الولايات المتحدة عن وضع قواعد في أفغانستان المجاورة لكل من الصين والهند ونفط بحر قزوين .
تحت عنوان : " نهاية عصر النفط الرخيص" ، كتب العالمان الجيولوجي الانجليزي كولن كامبل والجيولوجي الفرنسي جان لاهيريري Jean Lahererre ، في مجلة سينتفيك أمريكان Scientific American في عددها الصادر في مارس/آذار ،1998 يقولان : " ما سيواجهه مجتمعنا وفي وقت غير بعيد ، هو نهاية وفرة النفط الرخيص الذي تعتمد عليه جميع الدول الصناعية " .
وقبل ذلك بعام ، كتب العالمان المذكوران قائلين : " من تحليلنا لواقع الحقول النفطية المستكشفة والمنتجة حول العالم ، يمكننا القول إن حجم العرض من النفط التقليدي لن يكون كافياً لتلبية الطلب عليه خلال السنوات العشر القادمة ، وهذا الاستنتاج يتناقض مع الصورة التي ترسمها التقارير الصادرة عن صناعة النفط العالمية " .
وينتقد كامبل ولاهيريري التقديرات الصادرة عن الشركات النفطية الأمريكية بهذا الشأن بالقول : " لسوء الحظ فإن هذه التقديرات تنطوي على ثلاثة أخطاء كبيرة ، فهي تعتمد على تقديرات غير دقيقة لحجم الاحتياط العالمي من النفط ، وتبدو خادعة عندما تتظاهر بأن الإنتاج سيستمر على ثباته الحالي ، والخطأ الثالث والأكبر هو الاعتقاد السائد بأن آخر دلو من النفط سيتم ضخه من باطن الأرض بالسهولة والسرعة نفسيهما اللتين تحكمان تدفق النفط من الآبار في الوقت الحالي .. علماً بأن معدل إنتاج أي بئر في أي بلد دائماً ما يصل إلى الذروة ليبدأ بعدها عملية التراجع التدريجي ، والتي تبدأ عادة مع ضخ نصف النفط وصولاً إلى نقطة الصفر " . وهنا تبرز تساؤلات حول الأسباب الحقيقية وراء التقديرات الخاطئة التي تصدر عن الدوائر الأمريكية حيال حجم الاحتياطات النفطية .
ويضيف كامبل ولاهيريري قائلين : " من وجهة النظر الاقتصادية ، فإن ما يهم مباشرة هو ليس النضوب الكامل للنفط بقدر أن الأسعار ستبدأ بالارتفاع السريع مع بدء التراجع في الإنتاج ما لم يقابله تراجع في الطلب " .
ويقولان : " من خلال استخدام تقنيات مختلفة لتقدير حجم الاحتياطات النفطية الحالية ، وتلك غير المستكشفة ، بعد توصلنا إلى قناعة بأن التراجع المنتظر في إنتاج النفط سيبدأ قبل عام 2010 ".
ومما قاله العالمان بهذا الشأن : " عملية توقع متى يبدأ إنتاج النفط في التوقف عن الصعود، تصبح مسألة سهلة نسبياً إذا توفرت أرقام موثوقة عن حجم الاحتياطات النفطية المتبقية . وفي محاولتنا الخروج بفكرة واضحة عن هذه الاحتياطات استخدمنا تقنية منقحة نشرت لأول مرة عام 1956 من قبل كنج هوبرت King Hubbert ، وباستخدام نظريته الجديدة على إنتاج الولايات المتحدة للنفط خرج كنج هوبرت بتوقعات مؤادها ان إنتاج النفط الخام في الولايات المتحدة ، سيسجل ارتفاعاً خلال السنوات ال 13 المقبلة ليبدأ رحلة التراجع عام 1969 مع هامش خطأ لا يتجاوز العام الواحد " .
وبالفعل ، فقد صحت توقعات هوبرت ، حيث وصل الإنتاج النفطي الأمريكي ذروته عام 1970 ليبدأ منحنى الإنتاج مرحلة الهبوط المطرد طبقاً لتوقعات الجيولوجي المذكور . الأمر نفسه انطبق على الإنتاج النفطي في العديد من المناطق الأخرى مثل دول الاتحاد السوفييتي السابقة ، ومجموعة الدول المنتجة للنفط خارج منطقة الشرق الأوسط .
في غضون ذلك، يسجل الطلب على النفط ارتفاعاً سنوياً يتجاوز 2% حالياً.فمنذ عام 1985 واستخدامات الطاقة في ارتفاع مطرد ، وصل إلى 30% في أمريكا اللاتينية ، و40% في افريقيا، و50% في آسيا . وطبقاً لتوقعات إدارة معلومات الطاقة ، فإن الطلب العالمي على النفط سيرتفع بنسبة 60% بحلول عام 2010 " .
وكان الجيولوجيان كامبل ولاهيريري قد توصلا عام 1998 أي قبل عامين من وصول جورج بوش وتشيني للبيت الأبيض وإدارة المسألة النفطية بالقوة العسكرية إلى نتيجة مؤادها أن : " التحول من النمو إلى التراجع في الإنتاج النفطي من شأنه أن يخلق أوضاعاً اقتصادية وسياسية صعبة ، وبأنه ما لم تثبت بدائل الطاقة الأخرى مصداقية كافية لتحل محل النفط الخام ، فإن حصة دول الشرق الأوسط الأعضاء في أوبك من سوق النفط العالمي سترتفع بصورة كبيرة وسريعة . فخلال عامين فقط ، فإن حصة هذه الدول من تجارة النفط العالمية مرشحة لتجاوز نسبة 30% ، أي قريبة من المعدل الذي وصلت إليه خلال صدمة الأسعار النفطية في السبعينات . ومن المرجح أن تصل هذه الحصة إلى 50% بحلول عام ،2010 الأمر الذي يمنح الدول الإسلامية الأعضاء في أوبك موقعاً قوياً في الساحة الدولية ، الأمر الذي تعتقد الولايات المتحدة بأنه لا يمكن السماح به " .
مثل هذه التقديرات الواقعية الرصينة للوضع النفطي العالمي لقيت المزيد من التأكيد لاحقاً . ففي نوفمبر/ تشرين الثاني 2004 صدرت عن مركز تحليل نضوب النفط البريطاني ، ومقره لندن دراسة جاء فيها أن جميع مشاريع استخراج النفط الجديدة المقرر أن تدخل خط الإنتاج خلال السنوات الست القادمة ، لن تكفي لتعزيز الإمدادات النفطية بصورة تلبي احتياجات العالم المتزايدة من الذهب الأسود .
وجاءت تقديرات المركز هذه مبنية على تحليل حوالي 68 مشروعاً نفطياً ضخماً أعلنت بدء الدخول في الإنتاج خلال الفترة من 2004 ،2010 حيث يقدر الإنتاج الإجمالي لهذه المشاريع الجديدة بحدود 5.12 مليون برميل يومياً، تضاف لإمدادات النفط العالمية مع نهاية العقد الحالي.وهنا يقول عضو مجلس إدارة المركز كريس سكريبوسكي “هذا الإنتاج الجديد لن يكون كافياً بالتأكيد للتعويض عن النقص الحاصل في الإمدادات النفطية من المصادر الحالية، أو تلبية الطلب المتزايد على النفط في السوق العالمية”.
وطبقاً للدراسة المذكورة، فإن أكثر من نصف الإمدادات الجديدة المتوقعة ستذهب للتعويض عن التراجع الحاصل في إنتاج النفط من الأماكن الأخرى نتيجة للنضوب الطبيعي ، وأي زيادة سنوية متواضعة بنسبة 1% في الطلب على النفط ، خلال فترة السنوات الست المقبلة ، لن تسمح بوجود أي فائض ضروري للتقليل من الآثار المترتبة على أي انقطاع مفاجئ محتمل في الإمدادات النفطية لسبب أو لآخر .
وطبقاً لتقديرات ديك تشيني عام ، 1999 فإن اي زيادة في الطلب على النفط بحدود 2% سنوياً ، ستعني تراجعاً في الإمدادات المتاحة بما يتجاوز مليوني برميل يومياً بحلول عام ، 2010 أي ما يعادل فقدان إجمالي الإنتاج الكويتي اليومي بمعدلاته الحالية .
وهنا يعلق سكريبوسكي قائلاً : " مع توجه معظم المنتجين لعدم التقيد بالحصص الإنتاجية في محاولة منهم لتلبية الزيادات الحاصلة على الطلب هذا العام ، فإن طاقة الإنتاج الاحتياطي العالمي المتاحة تبخرت فعلياً ، وهذا يعني وجوب توفير إمدادات إضافية كبيرة على المديين القريب والمتوسط ، من خلال مشاريع نفطية جديدة يتم تطويرها في الوقت الحالي . غير أن هذه المشاريع لن تكون كافية لحل المشكلة في السنوات القادمة ، حيث من المرجح أن نشهد فترات نقص حادة في حالة استمرار الطلب القوي على النفط ".
وأضاف سكريبوسكي : " وحتى في حالة الطلب الخفيف نسبياً على النفط، فإن دراستنا تشير إلى بروز فجوة غير قابلة للتجسير بين الإمدادات والطلب بعد عام 2007 " .
وتأتي دراسة مركز تحليل نضوب النفط لتؤكد صحة ما سلف من توقعات بالقول : " طبقاً للبيانات التي أوردتها نشرة البريتيش بتروليوم لإحصاءات الطاقة في العالم ؛ فإن 18 من الدول الرئيسية المنتجة للنفط وصلت حالياً إلى ذروة الإنتاج لتبدأ مرحلة التراجع ، حيث تم تسجيل تراجع في حجم إنتاجها الإجمالي اليومي بمقدار مليون برميل ، علماً بأن هذه الدول تتحكم بنسبة 29% من إجمالي الإنتاج العالمي من النفط ".
حول هذا الموضوع تحدث ماثيو سيمونز Mathew Simmons ، أحد كبار المستشارين في إدارة بوش ونائب رئيس لجنة الطاقة التي شكلها ديك تشيني عام ، 2001 والأستاذ السابق في كلية الإدارة بجامعة هارفارد ، ويشغل حالياً منصب الرئيس التنفيذي لشركة سيمونز انترناشونال ، ويُعد من أشهر مديري الاستثمار في أمريكا ، حيث يدير حقيبة استثمارية بقيمة 55 مليار دولار عندما خاطب بتاريخ 27 مايو/ أيار 2003 المؤتمر الدولي الثاني حول ذروة الإنتاج النفطي الذي نظمه المعهد الفرنسي للبترول ، وجاءت مشاركته عبر الأقمار الصناعية . ومما جاء في حديث سيمونز أمام المؤتمر قوله : " هناك أمر يعرفه الجميع ، وهو أن مصادر النفط والغاز آيلة للنضوب باعتبارها من المصادر غير المتجددة . كما أن العالم يستهلك حالياً ما معدله 28 مليار برميل سنوياً ، حيث يعتمد بشكل شبه كلي على النفط كمصدر للطاقة (خمس أسداس مصادر الطاقة) .
صحيح أنه من الصعب تحديد وقت الوصول إلى نقطة الذروة في الإنتاج بدقة قبل أن تحدث فعلياً ، إلاّ أن هذه اللحظة قادمة بدون شك ، وتحليلاتي بهذا الشأن تدفعني للقول ، وبشعور يغلب عليه القلق بإنها قريبة ... وأنا هنا لا أتحدث عن أعوام طويلة .. ولسوء الحظ أن العالم لا يملك خطة لمواجهة لحظة الحقيقة .
ما نعنيه بذروة الإنتاج من منظور الطاقة ، هو الوصول إلى مرحلة يتعذر معها تحقيق أي زيادة في معدلات الإمدادات النفطية ، وعندها سيواجه العالم أكبر مشاكله حتى الآن " .
ارتفع الطلب على النفط خلال الفترة بين 1986ــ 2002 (خارج دول الاتحاد السوفييتي السابق ) ، من 54 مليون برميل يومياً ليصل إلى 73 مليون برميل، مع العلم إنها كانت فترة من النمو الاقتصادي المنخفض مقارنة بما تحققه بعض الاقتصادات، مثل الهند والصين من معدلات نمو متسارعة الآن . كما ويأتي هذا الطلب المتزايد على النفط في وقت وصل فيه الإنتاج النفطي إلى نقطة الذروة في مناطق بحر الشمال وأمريكا اللاتينية ، (باستثناء البرازيل وأمريكا الشمالية (باستثناء النفط الثقيل وإفريقيا ) (باستثناء احتياطات المياه العميقة )، بل وحتى معظم دول الشرق الأوسط من خارج منظمة أوبك .
من جانب آخر ، فإن شركات البترول ال 145 في العالم أنفقت ما يزيد على 410 مليارات دولار خلال الفترة من 1993 1996 لمجرد الحفاظ على مستوى إنتاجها من النفط عند حدود 30 مليون برميل في اليوم ، بينما نجد أن الشركات الخمس الكبرى : إيكسون وشل Shell وبي.بي B.P. وشيفرون تكساكو Chevron Texaco وتوتال Total أنفقت 150 مليار دولار لتحافظ على مستوى إنتاجها عند حدود 16 مليون برميل يومياً . ومع أن أربعاً من هذه الشركات أنفقت 40 مليار دولار خلال سنة واحدة ، انتهت بالربع الأول من عام 2003 في محاولة للحفاظ على مستوى إنتاجها ، إلا إنها سجلت تراجعاً في طاقتها الإنتاجية بحدود 67 ألف برميل يومياً .
يذكر أن معظم حقول النفط الكبيرة في العالم تم استكشافها خلال العقود الستة في القرن العشرين ، وعندما تصل الحقول إلى أقصى طاقاتها الإنتاجية ( ما يعرف بالذروة ) تحافظ على مستوى الإنتاج نفسه لبضعة أعوام ، إلاّ إنها سرعان ما تبدأ مرحلة الانحدار ويصبح استغلالها استثماراً صعباً ومكلفاً .
وفي هذا المجال ، يقول الباحث في الشؤون النفطية وولتر يونجكويست Walter Youngquest : " من أبرز سمات صناعة النفط الأمريكية حالياً هو التراجع في عائد الطاقة المستغلة مقارنة بكلفة استغلالها . ففي حين كانت النسبة عام 1916 عند 28 إلى ،1 مما كان يعني مردوداً كبيراً للشركات في هذا القطاع ، فإن هذه النسبة لا تتجاوز حالياً 2 إلى ،1 وهي ، علاوة على ذلك ، آخذة في تسجيل المزيد من التراجع . ويصل التراجع حالياً إلى درجة أن كلفة استخراج برميل واحد من النفط الأمريكي تصل إلى السعر السوقي للبرميل ، مما يعني بأن استخراج النفط في الولايات المتحدة لم تعد عملية مربحة .
وعلى سبيل المثال ، فقد كان من بين أكبر الاستكشافات النفطية في الشطر الغربي من الكرة الأرضية منذ السبعينات حقل نفط كروزبينا Cruz Beana في كولمبيا ، وقد تراجعت القدرة الإنتاجية لهذا الحقل من نصف مليون برميل يومياً في البداية إلى 200 ألف برميل فقط عام 2002 . وفي منتصف الثمانينات ، كان حجم إنتاج حقل فورتي فيلد Forty Field في بحر الشمال بحدود نصف مليون برميل يومياً، ليتقلص حالياً إلى 50 ألف برميل يومياً فقط . وفي ألاسكا، شكل حقل برودهو باي Prudhoe Bay أحد أكبر الاستكشافات النفطية خلال الأربعين عاماً الماضية . وقد بدأ حجم الإنتاج من الحقل المذكور ب 5.1 مليون برميل يومياً ، وظل الحقل محافظاً على هذا المعدل لأكثر من 12 سنة قبل أن يبدأ عملية انحدار سريع ، حيث لا يتجاوز حجم الإنتاج هناك حالياً 350 ألف برميل يومياً.وفي روسيا تراجع حجم إنتاج حقل ساموتلورSamotlor من 5.3 مليون برميل إلى 325 ألف برميل حالياً.صحيح أن روسيا قد تحقق بعض التطور في إنتاجها النفطي باللجوء إلى تقنيات غربية حديثة، إلاّ أن ذلك لن يكون له أثر يذكر في تغيير الصورة الإجمالية للوضع النفطي العالمي " .
مع انكشاف سر أزمة نضوب النفط ودخول الحقول النفطية العالمية مرحلة الذروة في الإنتاج ، تصبح ممارسات واشنطن في العراق أكثر وضوحاً . العراق في الواقع ليس سوى خطوة على طريق الهيمنة العسكرية الأمريكية على سائر ما تبقى من الاحتياطات النفطية في أنحاء العالم . ولعل هذا يفسر عدم اكتراث بوش لمسألة العثور على أسلحة الدمار الشامل ، أو البرهنة على صحة الادعاءات الخاصة بوجود روابط بين صدام حسين وأسامة بن لادن .
ما إن يصل الإنتاج النفطي مرحلة الذروة ، تبدأ الإمدادات النفطية مرحلة انحدار يتعذر عكسه ، ويصاحب ذلك ارتفاع في سعر النفط يتعذر عكسه أيضاً ، وهو وضع يزيده سوءاً ارتفاع في الطلب على النفط من قبل الدول الصناعية والنامية ، وفي وقت لا يتوافر فيه أي بديل للنفط كمصدر مواتٍ للطاقة وبخاصة في قطاع المواصلات . أضف إلى ذلك ، أن البدائل لا تستطيع أن تصبح بدائل دون إنفاق ألوف المليارات من الدولارات على تغيير البنى التحتية كافة التي اعتمدت النفط أساساً لبنائها.
لعل موضوع وصول الذروة في الإنتاج النفطي كنقطة تشكل بداية التراجع المثير للقلق في التدفق النفطي العالمي هو أحد أسباب الإبقاء على محاضر اجتماعات لجنة الطاقة التي أمر ديك تشيني بتشكيلها ، والتي عقدت في ربيع 2001 قيد الكتمان . فقد أصبح معروفاً لدى الكثيرين أن من بين الوثائق التي رفض تشيني الكشف عنها وقتها خرائط مفصلة لحقول النفط في العراق والسعودية وإيران .
كما أن الذروة النفطية توضح سبب التصميم المحموم من قبل حكومة توني بلير Tony Blair البريطانية على المخاطرة حتى بالمستقبل السياسي لرئيس الوزراء في الانضمام للحرب التي أطلقها بوش لاحتلال العراق ، فمن المعروف أن بريطانيا تعتمد كلياً على بحر الشمال لتوفير احتياجاتها من النفط والغاز ، وهي الحقول التي دخلت مرحلة الذروة عام 2000 لتبدأ بعدها مرحلة الانحدار السريع . وطبقاً للتقديرات ، فإن المملكة المتحدة ستنضم إلى نادي الدول المستوردة للنفط في وقت ما من العام الحالي 2005 وذلك لأول مرة منذ أربعين عاماً . ويبدو أن حكومة بلير أجرت حساباتها القائمة على اعتبارات أبرزها الحاجة لتوفير الطاقة للسوق البريطاني ؛ لتجد أن من الأفضل لها الوقوف إلى جانب واشنطن لا العراق .
يرى جان لوندبيرغ Jan Lundberg ، أحد المحللين المهتمين بقضية الذروة النفطية ، أن " سقوط حضارة النفط يعني نهاية حقبة من الممارسات التي أوجدت أكبر اقتصاد وأضخم سكان سجلهما تاريخ العالم ، ممارسات يعمل استمرارها على استنزاف كوكب الأرض ، مثل المواصلات التي تعتمد على النفط ، والزراعة التي تزدهر على الغاز الطبيعي . وقد عملت حضارة النفط على تحويل المجتمع إلى دولة خطيرة يحكمها الاستهلاك الخارج عن نطاق السيطرة والعائلة الآخذة في الانكماش والقيم المتراجعة . والواقع أن نهاية الوفرة النفطية من شأنها أن تغير كل شيء في عالمنا ".
إذا صحت توقعات الخبراء المثيرة للقلق هذه من أن منحنى الإنتاج العالمي من النفط على وشك دخول مرحلة الانحدار ، فسيكون لها عواقب غير مسبوقة على الاقتصاد العالمي . فارتفاع أسعار النفط سيعمل على إعاقة نمو الاقتصاد الصيني الذي يتأثر كثيراً بوضع النفط، ومن شأنه أن يعيد دول الأوسيد OECD إلى أيام التضخم المصحوب بالركود الاقتصادي .
ولعل واشنطن كانت تتمنى لو أن نفط بحر قزوين سيصبح البديل المحتمل لنفط الشرق الأوسط ، إلاّ أن الآمال التي علقها البعض على نفط بحر قزوين لم تتحقق ، والأسوأ من ذلك أن هذا النفط يقبع تحت أرض المسلمين .
" فشل خيار نفط بحر قزوين يقود بوش إلى العراق "
في الأسابيع الأولى من عام 2002 وبعد وقت قصير من سقوط القنابل الأمريكية على كابول وطالبان في افغانستان ، قرر جورج بوش إحداث تحول في استراتيجيته الخاصة بما يطلق عليه الحرب على الإرهاب. فعلى حين غرة ، نسيت أمريكا عدوها الأول والأكبر أسامة بن لادن الذي بدأ يلقى تجاهلاً مستغرباً من الماكينة الإعلامية الأمريكية التي تركته قابعاً في كهوف في جبال تورا بورا ، لتحول جلّ اهتمامها إلى العراق وصدام حسين ، المتهم بامتلاك أسلحة الدمار الشامل، ربما النووية منها والكيماوية أو الجرثومية .
وعلى مدار أشهر والجدل مستعر حول خطط بوش الجلية تجاه ما دعاه بتغيير النظام في العراق ، حيث نسي الناس في أمريكا والخارج أسامة بن لادن ، وأخذوا في تركيز اهتمامهم على شخص تعتبره واشنطن أخطر من زعيم القاعدة ، بالرغم من حقيقة أن العراق لم يكن يملك أي أسلحة في أي وقت تشكل تهديداً لأحد أبعد من " إسرائيل " ، فكيف بأمريكا البعيدة صاحبة القوة العظمى في العالم ؟ .
هناك حقيقة غابت عن الجدل ، الذي قاد إلى غزو العراق في مارس/ آذار 2003 وتتعلق برأي المعارضين لسياسة بوش وتشيني ورموز المحافظين الجدد، الذين يتحلقون حول ريتشارد بيرل Richard Perle وبول وولفويتز Paul Wolfowitz ، فقد كان من منتقدي استراتيجية بوش الخاصة بالحل العسكري الانفرادي العديد من الشخصيات البارزة من السياسيين ومن مؤسسة الاستخبارات ، ومن هؤلاء : زبيغنيو بريزنيسكي Zbigniew Brzezinski ، المستشار السابق للأمن القومي للرئيس كارتر ، وجيمس بيكر James Baker وزير الخارجية في عهد بوش الأب ، وبرنت سكوكروفت Brent Scowcroft ، مستشار الأمن القومي السابق والمقرب من هنري كيسنجر Henry Kissinger . لم يعترض هؤلاء وغيرهم من الاسماء المعروفة على تحرك بوش الرامي لإزاحة صدام والاستيلاء على النفط العراقي مباشرة ، بل كان جل اعتراضهم على أسلوب جورج بوش في العمل العسكري المنفرد . الواقع أنه كان هناك إجماع داخل النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة على احتلال العراق بحلول 2002 مع الاختلاف على الوسيلة .
أما السبب في الاندفاع المفاجئ نحو العراق ، واستعجال بوش في اتخاذ قرار الحرب ، فيتعلق بما أطلق عليه الخبراء اسم " الذروة النفطية " ويعود التوقيت وسرعة اتخاذ القرار بالحرب إلى الصدمة القاسية التي تلقتها الخطط السياسية الأمريكية الخاصة بنفط بحر قزوين ، حيث ان الأحلام الأمريكية بالعثور على احتياطات نفطية هائلة تعوضها عن الاعتماد على نفط الشرق الأوسط ولو مؤقتاً انتهت بالفشل .
ففي منتصف التسعينات ، كان المخططون في واشنطن على قناعة بأن السيطرة المباشرة للشركات النفطية الأمريكية والبريطانية على حقول نفط أذربيجان وكازاخستان ، من شأنها أن تمنح الولايات المتحدة الوقت الكافي المطلوب للتخطيط المتأني للسيطرة العسكرية على حقول النفط الأضخم في الشرق الأوسط وبالتدريج . كانت ظروف دول حوض بحر قزوين مواتية للخطط الأمريكية ، فقد كانت تلك الدول ، الخارجة حديثاً من العباءة السوفييتية ، تعاني من الضعف والفوضى ومنزوعة السلاح تقريباً ، الأمر الذي جعلها جاهزة لسيطرة النفوذ الأمريكي . وفي عام 1998 كانت النظرة الأمريكية إلى افغانستان من زاوية كونها تشكل حلقة مهمة تربط بين حقول النفط والغاز الطبيعي في حوض بحر قزوين وطرق خطوط النفط الجديدة الأمر الذي سيمنح الولايات المتحدة فسحة من الوقت قبل انفجار أزمة الذروة النفطية الخارجة عن نطاق السيطرة الأمريكية .
كانت التوقعات وقتها أن منطقة بحر قزوين في آسيا الوسطى تضم احتياطات هائلة ، تقدر بأكثر من 200 مليار برميل من النفط غير المستخرج لدرجة أنه أطلق عليها اسم " السعودية الجديدة " . وطبقاً لدراسة جدوى أولية قامت بها شركة اينرون Enron ، فإن أسهل وأرخص طريقة لإيصال نفط بحر قزوين إلى الأسواق هي من خلال مد خط أنابيب بين كازاخستان والحدود الباكستانية عبر أفغانستان. وفي أواخر التسعينات ، لم تكن اينرون وحدها تراهن على الغاز الطبيعي المسال الرخيص من منطقة بحر قزوين لتغذية مشاريعها في الهند ، بل كانت هناك شركات كبرى أخرى تتطلع لمصدر الطاقة هذا ، مثل شركة يونوكال Unical وشركة هاليبرتون . وهنا نستذكر قول الرئيس التنفيذي لشركة هاليبرتون ديك تشيني في عام 1998 : " لا أذكر انه مرّ وقت ظهرت فيه فجأة منطقة بهذه الأهمية الاستراتيجية مثل منطقة بحر قزوين " .
الواقع أن الاحتياطات النفطية هذه لمنطقة بحر قزوين كانت عنصراً أساسياً في خطة الطاقة التي أعدها نائب الرئيس ديك تشيني في مايو/ أيار 2001 . وطبقاً للتقرير الذي أعده بهذا الشأن ، فإن التوقعات تشير إلى ان الولايات المتحدة ستستورد 90% من احتياجاتها النفطية من الخارج بحلول عام 20 20 الأمر الذي يكسب نفط قزوين أهمية استراتيجية في تلبية الطلب الأمريكي المتنامي على الطاقة ، ويقلل ، في الوقت ذاته ، من الاعتماد الأمريكي على نفط الشرق الأوسط .
غير انه سرعان ما توقف الحديث عن ثروات بحر قزوين النفطية بعد الحرب الأفغانية مباشرة ، وعاد التركيز في الاهتمامات الأمريكية النفطية على الشرق الأوسط وبخاصة نفط السعودية والعراق . وفي ذلك نقل عن الخبير الجيولوجي النفطي كولن كامبل عام 2002 وتحديداً بعد الحرب على أفغانستان القول إن" الاستكشافات النفطية في دول حوض بحر قزوين جاءت مخيبة للآمال من حيث إنها جاءت أقل بكثير مما كان متوقعاً ، علاوة على النوعية الرديئة للنفط المستخرج " .
بحلول عام ،2003 بدا واضحاً أن التوقعات الخاصة بحجم الاحتياطات النفطية في حوض بحر قزوين ، والتي وضعتها وكالة إعلام الطاقة (EIA) في واشنطن ، بحدود 200 مليار برميل ، مبالغ فيها إلى حد كبير . فقد أعلن ستيفن مان Steven Man مدير مكتب السياسة النفطية بوزارة الخارجية الأمريكية ، أن حجم الاحتياطات المذكورة لا يتعدى 50 مليار برميل . ومما قاله مان : " لا يشكل نفط بحر قزوين أكثر من 4% من حجم الاحتياط العالمي المعروف ، الأمر الذي لا يجعله قادراً على التأثير في الأسواق العالمية " .
بل إن توقعات ستيفن مان جاءت مبالغاً فيها بدورها ، فبعد حفر ثلاث آبار استكشافية مع نهاية الحرب الأفغانية ، جاءت التقارير الفعلية لتشير إلى أن منطقة بحر قزوين تضم ما بين 10 و20 مليار برميل فقط ، وإن كانت غنية بالغاز الطبيعي . بعدها بدأت الشركات النفطية الكبيرة ، وبهدوء ، إلغاء خططها الخاصة بمشروع خط الأنابيب عبر أفغانستان ، بعد أن تبين عدم جدوى هذا المشروع الضخم اقتصادياً .
بعد ورود التقارير المخيبة للآمال مباشرة ، لم تعد الولايات المتحدة تتحدث عن نفط بحر قزوين بالتفاؤل الذي غلب عليها في البداية ، عندما أطلقت على المنطقة المذكورة اسم الشرق الأوسط الجديد ، ولم تعد منطقة بحر قزوين تشكل المصدر الموعود ، الذي سيعوض العالم عن التراجع في حجم التدفق النفطي بما يكفي لمواجهة الطلب المتعاظم عليه في السنوات القادمة .
ومع أن الاحتلال العسكري الأمريكي لأفغانستان استمر بعد ذلك ، إلاّ انه لم يعد يكتسب الأولوية في الخطط الأمريكية ، حيث بدأت واشنطن ممارسة الضغوط على ألمانيا ودول الناتو الأخرى للقيام بالدور الأكبر في الحفاظ على الأمن هناك ، مع تحول الاهتمام الأمريكي إلى الشرق الأوسط بدءاً من العراق .
الواقع أن الأعين الأمريكية كانت دوماً تركز على العراق ، الذي تحدثت التقارير مطولاً عن امتلاكه احتياطات نفطية تصل إلى 112 مليار برميل ، أي ما يعادل 11% من حجم الاحتياط الإجمالي العالمي من النفط ، غير ان اهتمامات الروس والفرنسيين والصينيين باستئجار الحقول العراقية غير المكتشفة أكسب العراق المزيد من الأهمية ، لدرجة أن التقارير تحدثت عن إمكانية امتلاك العراق احتياطات نفطية تتجاوز 200 مليار برميل ، وهنا يكمن السبب الحقيقي وراء قرار بوش غزو العراق .
الواقع أن بعض الصقور في البنتاجون تحدثوا صراحة عن أن الحرب على العراق هي من أجل النفط وليس نزع أسلحة الدمار الشامل العراقية المزعومة ، فهذا نائب وزير الدفاع بول وولفويتز يقول في مقابلة في سنغافورة بتاريخ 31 مايو 2003 : " دعونا ننظر إلى الأمر ببساطة... فالفرق الأهم بين كوريا الشمالية والعراق يكمن في الناحية الاقتصادية... لم يكن أمامنا من خيار آخر في العراق ، فتلك البلاد تطفو على بحر من النفط " . وفي مقابلة أخرى في الشهر نفسه ، أجرتها مجلة فانيتي فيير مع صاحب تقرير " مشروع القرن الأمريكي الجديد " ، قال وولفويتز : " ... لأسباب تتعلق بالبيروقراطية لحكومة الولايات المتحدة ، استقر الرأي على مبرر يلقى الموافقة من الجميع وهو أسلحة الدمار الشامل " .
عندما سئل المحلل الاقتصادي سايمونز عن توقعاته لمستقبل العالم ، بعد أن تبدأ مرحلة النفط بالانحدار ، وما الذي يتوجب فعله لمواجهة الأزمة الاقتصادية الهائلة التي تنتظر حضارة النفط ، قال : " البديل الوحيد المتاح حالياً هو الانكماش الاقتصادي " .
الواقع أن اقتصاد الولايات المتحدة يجد نفسه أمام معضلة ، فحتى مع افتراض العثور على بديل للنفط ، فإن المشكلة ستصبح في مدى الحاجة للمزيد من النفط لإعداد البنية التحتية الجديدة والتغييرات المؤسسية المطلوبة للتوافق مع البديل الجديد . وحيث إن الولايات المتحدة تخلت عن الذهب كاحتياط للدولار العملة الأمريكية ، فقد أصبح الذهب الأسود ( النفط ) البديل الذي يدعم سعر صرف العملة الأمريكية ، باعتبار أن الدولار هو العملة المعتمدة في سوق النفط العالمي ، الأمر الذي يتيح للخزينة الأمريكية طبع ما تشاء من أوراق نقد وطرحها من دون غطاء ، باعتبار أن الدولار النفطي أصبح الاحتياط النقدي للعالم . وعليه فإن الاقتصاد الأمريكي حاضر في كل صفقة نفطية تعقد في السوق العالمي .
اختارت واشنطن العراق لإقامة قلعة عسكرية حصينة لها في المنطقة ، تستطيع من خلالها السيطرة على الدول النفطية المجاورة مستقبلاً ، وعلى رأسها إيران والسعودية وباقي دول الخليج في نهاية المطاف . أما لماذا وقع الاختيار الأمريكي على العراق ؟ فلأن العراق يمتلك احتياطات نفطية هائلة لم تستغل بعد ، ولأن نظام صدام حسين المكروه في المنطقة كان هدفاً سهلاً لواشنطن ، أو هذا ما اعتقده الأمريكيون على الأقل .
وبالطبع هناك أسباب أخرى لاختيار العراق هدفاً للآلة العسكرية الأمريكية ، وهي أن نظام صدام أظهر تحدياً لمحاولات واشنطن السيطرة على سياساته ، فبعد أن دمر الأمريكيون الجزء الأعظم من القوة العسكرية والاقتصادية للعراق عام ،1991 بدأ صدام إقامة تحالفات مع دول أجنبية ، وخاصة مع روسيا التي كان لها بدورها أطماع نفطية في العراق . كما منحت بغداد امتيازات نفطية لكل من الصين وفرنسا اللتين كانتا تنتظران رفع الحظر الأمريكي المفروض على العراق للاستثمار في مشاريع نفطية كبيرة تعود على اقتصاداتهما بفائدة عظيمة .
كما أن صدام أقدم على خطوة حملت تهديداً للمصالح الأمريكية ، بإعلانه في نوفمبر/ تشرين الثاني 2000 عن التوصل إلى اتفاق مع حكومة شيراك بتسعير مبيعات النفط العراقية ضمن برنامج النفط مقابل الغذاء باليورو بدلاً من الدولار الذي تلتزم به أوبك منذ بداية السبعينات . فالدولار الذي يشكل عملة الاحتياط العالمي ، يُعد ركيزة الامبراطورية الأمريكية ، وأي تهديد محتمل له لحساب العملة الأوروبية من شأنه أن يجعل من أوروبا القوة المهيمنة في العالم . بل إن مجرد التفكير في احلال اليورو محل الدولار في تسعير النفط تسبب بموجة رعب في الوول ستريت وفي واشنطن .
ولهذه الأسباب كان العراق المرشح " الأوفر حظاً " لأن يكون الهدف الأول للتحرك الأمريكي الرامي للسيطرة التامة على نفط العالم بعد الحملة الأفغانية.
يعتقد الخبراء العالميون أن ذروة الإنتاج النفطي إما انها بدأت ، أي بداية الهبوط التدريجي حتى النضوب أو على وشك البداية ، فهم يتوقعون أن إيران على سبيل المثال قد تخطت قمة إنتاجها ، وأن بداية الهبوط قد حصلت فعلاً . فقد بدأت إيران تنفيذ مشاريع عملاقة هدفها فقط هو مساعدة الإنتاج على عدم الهبوط أو تخفيف سرعة هبوطه . فهم الآن ينفذون ، على سبيل المثال ، مشروعاً لضخ الغاز بكميات كبيرة في حقل أغاجاري Aghajari بكلفة ملياري دولار ، بواسطة خط أنابيب قطره 72 إنشاً وذلك لرفع الإنتاج من 200 ألف برميل/ اليوم إلى 300 ألف برميل/ اليوم ، علماً بأن هذا الحقل كان ينتج مليون برميل/ اليوم في السبعينات من القرن العشرين . ويعتقد الخبراء أن حقول النفط الإيرانية وكذلك السعودية ، قد تعرضت إلى الإنتاج الجائر مما سيفقدها كثيراً من مخزونها ليصبح غير قابل للاستخراج . والإنتاج الجائر هو الإنتاج الذي يزيد على المعدل الأكثر ملاءمة للحقل ، مما ينتج عنه بقاء كميات في الحقل غير قابلة للاستخراج وذلك لأن الإنتاج الزائد يفسد الطبقات الجيولوجية الحاملة للبترول مما يعقد عملية إخراج البترول منها .
ويقول ماثيو سيمونز ، مستشار إدارة الرئيس بوش للطاقة ، إن من الممكن أن ينتج عن الإنتاج الجائر بقاء كميات كبيرة قد تصل حتى 80% من المخزون النفطي لحقل ما ليصبح غير قابل للاستخراج ، وهو يرجح أن حقول المملكة العربية السعودية قد تعرضت إلى مثل هذا النوع من الإنتاج الجائر ، خصوصاً عندما قبلت المملكة العربية السعودية دور الدولة المرجحة للإنتاج عند زيادة الطلب العالمي Swing Producer ، ويستشهد سيمونز على ذلك بوثائق من الكونجرس الأمريكي من إحدى لجانه المنعقدة عام ،1974 والتي أبدت شكوكها في أن حقول النفط السعودية/ أرامكو ARAMCO تتعرض إلى إنتاج جائر ، وذلك ضمن وثائق من 1400 صفحة من شهادات الخبراء ، والذين كانوا يدلون بشهاداتهم تحت اليمين . كما كتبت الواشنطن بوست آنذاك تحقيقاً نقلاً عن أحد خبراء أرامكو ، والذي أبدى رأيه بأن الحقول تتعرض إلى إنتاج جائر . وكان رأي الخبراء أن أي إنتاج يزيد على 4 ملايين برميل/ اليوم آنذاك هو إنتاج جائر يؤذي تلك الحقول النفطية . لذلك فمن المعلومات قليلة التداول هذه الأيام أن أكبر الحقول النفطية لأرامكو ، وهو أكبر حقل نفط في العالم ، قد أصبح من غير الممكن إنتاجه بالضخ الطبيعي ، مما استدعى لجوء الشركة إلى وسائل مساعدة كما الحال في إيران ، وذلك بضخ ما يزيد على 5 ملايين برميل من الماء يومياً .
ولقد اضطرت شركات عبر قطرية بترولية لتخفيض تقديراتها مما لديها من مخزون ، نتيجة عدم إمكانية استخراج جزء كبير من الكميات المقدرة . لذلك قامت شركة شل بالاعتراف بأن الكميات القابلة للاستخراج أصبحت أقل ب 20% من التقديرات السابقة ، مما تسبب بإقالة عدد من المديرين في الشركة ، كما أن شركة الباسو EL Paso اعترفت بأنه نتيجة الإنتاج الجائر لحقولهم ، فإن 41% من مخزونها أصبحت غير قابلة للاستخراج .
وصل سعر البترول عام ، 1980 بالسعر المعدل للدولار لهذه الأيام ، حوالي 75 دولاراً / البرميل ، ونتيجة للضخ الزائد على الحاجة ، وكذلك الزائد على الضخ المناسب للحقول ، فلقد خسرت خزائن الدول العربية المنتجة للنفط ما يزيد على 5000 بليون دولار . وكانت الحروب العربية العربية نتيجة مباشرة لهذا الضخ الزائد ، حيث إن أحد أسباب توتر العلاقات الكويتية العراقية كان الادعاء بأن زيادة الإنتاج لبعض الدول الخليجية على حصصها المقررة في أوبك قد نجم عنها خفض الأسعار ، مما كان يكلف العراق مليار دولار في السنة عن كل دولار هبوطاً في سعر النفط .
يبقى هناك سؤال منطقي ، فهل يعقل لدولة كالإمبراطورية الأمريكية انها كانت غافلة عن حدث جلل كهذا يهز أركان اقتصادها ونفوذها الحضاري ؟ .
خطاب الرئيس كارتر المتلفز بتاريخ 18 أبريل/ نيسان 1977 يبين بشكل قاطع أن الولايات المتحدة كانت تعي تماماً حجم المشكلة ، حيث قال الرئيس كارتر : " أود الليلة أن أتكلم لكم بطريقة لا تسر عن مشكلة غير مسبوقة المثيل في تاريخنا ، هي أخطر تحد سيواجهنا في أيامنا هذه ، وهي مشكلة ليس لها حل في السنوات القادمة القليلة ، وسوف تزداد سوءاً مع الأيام خلال هذا القرن ... بكل بساطة ، علينا التأقلم في استهلاك موارد الطاقة بما يتناسب وما لدينا من مصادر ، والتي تتناقص بوتيرة متسارعة . ولو بدأنا العمل من اليوم فلربما نستطيع أن نتحكم في مستقبلنا ، وإلاّ تحكم المستقبل بنا ... سأتقدم بمقترحاتي حول ذلك في اليومين القادمين ... وأكثر هذه المقترحات لن تكون مرغوبة لكم ، حيث سيتطلب بعضها أن تقوموا بالتضحيات ... لكن المهم من تلك المقترحات أن بديلها هو الطامة الكبرى لنا ، وتأخير الحلول سيؤثر علينا كقوة دولية . إن النفط والغاز اللذين يكونان 75% من استهلاكنا للطاقة آخذان في النضوب ... يستهلك العالم 60 مليون برميل/ اليوم (عام 1977) ويزداد الطلب بمعدل 5% سنوياً. وهذا يعني أنه لإشباع هذه الزيادة في الطلب ، علينا أن نجد استخراجات جديدة بحجم إنتاج تكساس كل سنة ، أو المنحنى الشمالي لألاسكا كل 9 شهور ، أو كحجم إنتاج المملكة العربية السعودية كل 3 سنوات ، إذن ، فالأمر لا يمكن بقاؤه على هذا الحال .... وإذا لم نبدأ العمل من اليوم فسوف نواجه أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية ستهز أركان مؤسساتنا .... لا يمكننا الاستمرار في الاعتماد بنسبة 75% على النفط والغاز لاستهلاكنا ، في الوقت الذي يشكل النفط والغاز 7% فقط من احتياطاتنا المحلية . علينا اللجوء إلى الفحم الحجري مع الحفاظ على البيئة ، وإلى المحطات النووية مع الحفاظ على السلامة ... " . لكن لماذا ، إذن ، لم تفعل الولايات المتحدة الكثير بل الحد الأدنى مما يلزم لمواجهة هذا الخطر الداهم ؟ .
جون مايكل غرير John Michael Greer يشير إلى دراسة قدمها ( نادي روما ) في منتصف السبعينات في القرن العشرين بعنوان " حدود النمو The Limits of Growth " ، جاء فيها " أن الاقتصاد العالمي الذي يعتمد على الأحلام بنمو مستمر ، سيصطدم مع الحقيقة وموارد الأرض المحدودة في بدايات القرن الحادي والعشرين " ويضيف غرير Greer " إن افتراض إمكانية أن تقوم الحكومة الفيدرالية الأمريكية بعمل شامل هو ضرب من الخيال ، لأن اقتراح برنامج ضروري للوصول إلى الحد الأدنى لمعالجة المشكلة سيكون انتحاراً سياسياً " .
إن البنية التحتية المطلوب بناؤها لاستيعاب أي بديل جديد للبترول ، تحتاج إلى آلاف المليارات من الدولارات ، في الوقت الذي أصبح العجز بين الطلب والإنتاج للبترول يهدد أركان الاقتصاد الرأسمالي ، وبذلك أصبح هذا النظام في صراع مع الطبيعة ، والتي ستكون لها الغلبة حتماً في نهاية الأمر .
محاربة الإرهاب.. الحروب الأمريكية للسيطرة على النفط العالمي
تسعى استراتيجية البنتاجون ، التي تحمل اسم " طيف الهيمنة الكاملة " ، إلى تحقيق الهيمنة على " كل شيء وفي كل مكان " . ويأتي النفط العالمي - الاسلامي وغير الإسلامي - على رأس قائمة الأهداف الاستراتيجية الأمريكية المعلنة هذه . غير أنه ، نظراً لوجود معظم الاحتياط العالمي من النفط تحت أرض المسلمين ، فإن آخر حروب النفط في القرن الأمريكي الجديد تتركز في الشرق الأوسط . إلا أن هذا لا يخفي حقيقة أن الولايات المتحدة تخوض في الوقت نفسه حروباً نفطية أخرى في أمريكا اللاتينية وافريقيا وآسيا . ففي أمريكا اللاتينية ، تمتد المصالح النفطية من المكسيك إلى الأرجنتين مروراً بكولومبيا وفنزويلا والأكوادور والبرازيل ، وعبر الأطلسي في افريقيا ، تتواجد الشركات النفطية الأمريكية في نيجيريا وانغولا وغينيا الاستوائية ، وصولاً إلى السودان وجنوب افريقيا وزيمبابوي . وفوق ذلك ، تخوض أمريكا حروبها النفطية في العراق وعبر الشرق الأوسط الغني بالنفط ، وحول المناطق الغنية بالذهب الأسود في دول الاتحاد السوفييتي السابق ، بما فيها روسيا ، وجنوباً في أفغانستان .
" خطة الحروب النفطية الأمريكية "
هناك حقيقة يدركها دعاة الهيمنة الأمريكية على العالم من النخبة المالية والعسكرية ، وهي أن بلادهم على وشك استنفاد مواردها النفطية الخاصة . ففي خارج ألاسكا ، وصل الإنتاج النفطي في 48 ولاية أمريكية إلى ذروته في وقت مبكر يعود إلى عام ، 1970 وهذا يعني ، في رأي الخبراء الجيولوجيين النفطيين ، مثل كينغ هوبارد King Hubbard الذي سبق له توقع هذه النتيجة ، بأن الإنتاج النفطي الأمريكي بدأ رحلة التراجع ، وبأن على أمريكا الاعتماد أكثر فأكثر على واردات النفط الأجنبي المستورد لتحريك عجلة الإنتاج القومي . إلا انه ، في الوقت الذي أخذت فيه النخبة السلطوية في الولايات المتحدة توقعات هوبارد على محمل الجد ، وبدأت رسم خططها المستقبلية على هذا الأساس ، تعمدت توجيه ماكنتها للتشهير بالخبير الجيولوجي الكبير ونعته بسائر الأوصاف .
وإذا كان العالم سرعان ما نسي أمر الجيولوجي الأمريكي العبقري ، فإن ال " سي. آي. ايه " لم تتجاهله . ففي عام 1977 جندت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية كينغ هيوبارد ، مستغلة وقتها حماسه كأمريكي وطني تواق لخدمة بلاده ، للاستفادة من خبراته الواسعة في المجال النفطي . أرادت ال " سي. آي. ايه " معرفة الوقت المحتمل لوصول الاتحاد السوفييتي - الذي كان وقتها أكبر منتج للنفط بطاقة 12 مليون برميل يومياً - إلى ذروة إنتاجه .
جاءت توقعات هيوبارد لتشير إلى أن النفط السوفييتي سيصل ذروته في عقد الثمانينيات ، ليبدأ بعدها مرحلة من التراجع السريع ، مما يعني تراجعاً كبيراً في حجم الصادرات ، وبالتالي حرمان الخزينة السوفييتية من أهم مصادرها من العملة الصعبة ، بعدها يصبح انهيار الاتحاد السوفييتي مسألة وقت . كان التخطيط الأمريكي وقتها مساعدة موسكو على الوصول إلى الإفلاس السريع ، من خلال إطلاق إدارة ريجان ( كان بوش الأب نائباً للرئيس ) سياسته المقصودة من الإنفاق على التسلح بيد مفتوحة ، بما في ذلك برنامجها المعروف بحرب النجوم ، الذي يقوم على تطوير الصواريخ المضادة للصواريخ. ولأن موسكو لم تكن في وضع يسمح لها بمجاراة أمريكا ، فإن النتيجة الطبيعية ستكون الإفلاس الذي يسبق الانهيار .
وكما لو أن ما حصل للاتحاد السوفييتي لم يكن كافياً في نظر النخبة الأمريكية التواقة للسيطرة على " كل شيء وفي كل مكان " ، فقد تحركوا بسرعة لتخريب الثروات النفطية للاتحاد السوفييتي السابق ونهبها . فقد عملت الولايات المتحدة ، وبالتعاون مع حكومة توني بلير في بريطانيا ، على الاستيلاء على كل شيء ذي قيمة في دول أوروبا الشرقية . وفي الوقت الذي شغل فيه كلينتون العالم بفضائحه الجنسية ، كان الرئيس والنخبة الحاكمة الفعلية في أمريكا ماضين قدماً في تنفيذ خططهم للسيطرة التدريجية ولكن الثابتة على أورو - آسيا ، ومن خلالها التحكم بالنفط وخطوط الطاقة الحيوية عبر المنطقة المستهدفة ، من كوسوفو غرباً إلى أذربيجان شرقاً .
أعدت النخبة الأمريكية استراتيجية امبريالية جديدة على أمل السيطرة من خلالها على المنطقة التي تتحكم بإمدادات الطاقة العالمية ، إضافة إلى الأهمية الاستراتيجية التي تكتسبها أراضيها المترامية . وفي هذا الصدد ، رسم رموز مجلس العلاقات الخارجية ، من أمثال كيسنجر وبريزنسكي وولفويتز وغيرهم مخططات للدولة البوليسية العالمية التي ستمثلها الولايات المتحدة في القرن الأمريكي الجديد . وبدراسة الخطط الامبريالية لهؤلاء ، يمكن الخروج بصورة واضحة عن خطط النخبة الاستعمارية التي تقود أمريكا حالياً لتحقيق الهيمنة الكاملة على العالم .
تركز اهتمام الاستراتيجية الامبريالية ، منذ نهاية الحرب الباردة ، على محاولة منع ربط اورو - آسيا المتمحورة حول روسيا بمنطقة الشرق الأوسط الغنية بالنفط ، وبخاصة العراق وإيران اللتين كانتا حتى وقت قريب بعيدتين عن دائرة النفوذ والسيطرة الأمريكية . ولعل السبب الرئيسي في الهجمة الأمريكية غير المتسامحة تجاه محاولات العراق وتجاه المحاولات الإيرانية الحالية لامتلاك التكنولوجيا النووية أو القوة العسكرية يعود إلى أن الاستراتيجية الأمريكية لا تسمح للدول صاحبة المصادر النفطية بامتلاك القوة العسكرية ، والمصادر الطبيعية في الوقت ذاته . ولهذا السبب ، لا تتعامل الولايات المتحدة مع البرنامج النووي لكوريا الشمالية بنفس بالاهتمام والقلق نفسيهما ، بينما تعتبر المحاولات العراقية والإيرانية خروجاً عن المسموح به .
وتعود المحاولات الأمريكية الدؤوبة للحفاظ على هيمنتها على منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص ، والدول النفطية الخارجة من تحت العباءة السوفييتية إلى احتمالات انضمام هاتين المنطقتين للنادي النووي ، وطبقاً للاقتصادي جاي. دبليو. سميث J. W. Smith فإنه في حالة حدوث ذلك سيكون لدول الشرق الأوسط من القوة ما يسمح لها بحماية مصادرها والاستقلال في مواقفها . فمصادر الشرق الأوسط والاتحاد السوفييتي يمكن أن تضاهي ما يملكه الغرب ، إضافة إلى احتكارهما للمصادر النفطية الرئيسية في العالم ، بكل ما يعنيه ذلك من تحكم في أسعار الطاقة ، والحصول على الجزء الأكبر من ثروة الغرب ، التي ستذهب لتسديد الفواتير النفطية العالية . وعليه ، فإننا نجد بأن معظم الإنفاق العسكري للغرب يذهب للحفاظ على السيطرة على هذه المنطقة المتفجرة من العالم ، ومنذ 1992 والجهود في هذه المنطقة في تصاعد ، حيث تحولت المنطقة إلى قبلة للجهود العسكرية الأمريكية . فهناك عملية إعادة انتشار عسكري واسع النطاق تنفذها الولايات المتحدة وتستهدف آسيا الوسطى والعراق وإيران بشكل خاص .
" استراتيجية وولفويتز الامبريالية لعام 1992 "
قد تكون بمثابة مفاجأة للبعض ، غير أن النخبة السلطوية الأمريكية بدأت التخطيط للهيمنة على العالم ضمن ما عرف باستراتيجية الامبراطورية العالمية قبل هجمات 11 سبتمبر/ايلول بسنوات ، وتحديداً بعد انهيار المنافس الرئيسي لأمريكا في السيطرة على العالم وهو الاتحاد السوفييتي . وقتها كانت الوجوه نفسها التي تتحكم في القرار الأمريكي هذه الأيام . كان هناك ديك تشيني على رأس وزارة الدفاع ، ومساعده لشؤون التخطيط المدعو بول وولفويتز . والآن ما يزال وولفويتز صاحب الكلمة المسموعة في وزارة الدفاع والمخطط الرئيسي للاستراتيجية الأمريكية في العراق وما بعدها .
في عام 1992 أعد وولفويتز ، وبتكليف من الوزير تشيني ، ورقة بيضاء سرية حول الاستراتيجية العسكرية الأمريكية القادمة . وبعد تسرب الورقة التي تشغل 46 صفحة لوسائل الإعلام ، سارع تشيني والبيت الأبيض إلى اخفائها عن أعين العامة ، مدعين بأنه تم التخلي عنها ، إلا أن ما ورد في ورقة وولفويتز ، وجد طريقه للتنفيذ في عهد بوش الابن . فقد شكلت توصيات معد الورقة ، وهو أحد رموز المحافظين الجدد ، البرنامج الفعلي لمشروع الامبراطورية الأمريكية العالمية ، كما اعتبرت الأساس لعقيدة بوش المعلنة في سبتمبر/ايلول ،2002 والخاصة بالحروب الإجهاضية الاستباقية والاستراتيجية الأمنية للولايات المتحدة في القرن الجديد .
حملت ورقة وولفويتز Wolfowitz المثيرة عنوان " دليل التخطيط الدفاعي للسنوات 1994 - 1996 " وقد تم توزيع هذا البيان الداخلي الخاص بسياسة الإدارة الأمريكية على كبار القيادات العسكرية والمدنية في وزارة الدفاع ، بهدف إرشادهم لكيفية إعداد القوات والميزانيات والاستراتيجية الدفاعية للسنوات الخمس التالية . كانت وثيقة وولفويتز الأولى من نوعها في مرحلة ما بعد الحرب الباردة ، وجاءت الوثيقة لترسم صورة جديدة لعالم فيه قوة عظمى وحيدة يتوجب على قادتها الحفاظ على آليات كفيلة بردع أي منافسين محتملين عن التطلع للقيام حتى بدور إقليمي أو عالمي من أي نوع .
وفيما يلي بعض الأجزاء الهامة من الاستراتيجية الامبريالية العالمية كما وضعها وولفويتز عام ،1992 بهدف الحيلولة دون " إعادة ظهور منافس جديد " للولايات المتحدة : " أهداف الاستراتيجية الدفاعية : سيكون هدفنا الرئيسي الحيلولة دون ظهور منافس جديد ، سواء في أراضي الاتحاد السوفييتي السابق أو في أي مكان آخر ، منافس قد يشكل تهديداً مماثلاً لما كان يشكله لنا الاتحاد السوفييتي من قبل . إن هذا الهدف يشكل أساساً للاستراتيجية الدفاعية الإقليمية الجديدة ، ويتطلب منا العمل على منع أي قوة معادية من الهيمنة على منطقة تملك من المصادر ما يكفي لتغذية ولادة قوة إقليمية ، وتشمل هذه الأقاليم كلاً من أوروبا الغربية وشرق آسيا ، دول الاتحاد السوفييتي السابقة وجنوب غرب آسيا .
التهديدات والمخاطر الإقليمية : مع انتهاء التهديد العسكري العالمي للمصالح الأمريكية الذي كان يمثله الاتحاد السوفييتي ، بدأت تهديدات إقليمية في الظهور ، بما فيها صراعات محتملة في مناطق الاتحاد السوفييتي السابق ، حيث ستبقى هذه التهديدات مبعث قلق أمريكي رئيسي في المستقبل ، وستظهر هذه التهديدات على الغالب في مناطق تشكل أهمية كبيرة بالنسبة لأمن الولايات المتحدة وحلفائها ، بما فيها أوروبا وشرق آسيا والشرق الأوسط وجنوب غرب آسيا ، ومناطق الاتحاد السوفييتي سابقاً . كما أن لأمريكا مصالح كبيرة في أمريكا اللاتينية والصحراء الافريقية ، حيث ستعمل الولايات المتحدة على منع سيطرة أي قوة معادية على هذه المناطق الرئيسية " .
" خطة البنتاجون للحرب الإقليمية "
جاءت استراتيجية البنتاجون المعدة من قبل وولفويتز عام 1992 شاملة ومفصلة ، بطريقة توضح تماماً حقيقة أن السياسة الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ، صيغت بتخطيط مسبق بهدف خلق القرن الأمريكي الجديد وامبراطوريته العالمية . كانت ال" سي.آي.ايه " والمخططون الاستراتيجيون من النخبة السلطوية في مجلس العلاقات الخارجية ، مدركين تماماً في عام 1992 لحقيقة أن الحقول النفطية الرئيسية خارج منطقة الشرق الأوسط وربما الاتحاد السوفييتي السابق آخذة في النضوب وبسرعة كبيرة . وكشرط للسيطرة على العالم ، فإن على الآلة العسكرية الأمريكية الجبارة السيطرة على مصادر النفط في العالم .
وفي الوثيقة الخطيرة التي أعدها عام ،1992 يتحدث وولفويتز عن سياسة واشنطن تجاه المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية للمصالح الأمريكية ، نورد منها المقتطفات المحددة التالية الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط وجنوب غرب آسيا : " إن هدفنا الإجمالي في الشرق الأوسط وجنوب غرب آسيا هو إبقاء المنطقة خارج نفوذ أي قوة إقليمية ، والحفاظ على حرية وصول الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين إلى نفط المنطقة . كما نسعى أيضاً إلى ردع أي عدوان في المنطقة ، وتعزيز الاستقرار الإقليمي وحماية المواطنين والممتلكات الأمريكية والحفاظ على حقنا في استخدام الأجواء والممرات المائية الدولية . وكما تبين من الغزو العراقي للكويت ، فإنه يبقى من الأهمية بمكان الحيلولة دون وقوع المنطقة تحت هيمنة قوة أو تحالف قوى إقليمية ، وبخاصة فيما يتعلق بشبه الجزيرة العربية . ولهذا يتوجب علينا الاستمرار في لعب دور من خلال تعزيز سياسة الردع وتطوير التعاون الإقليمي " .
وفي هذا الصدد ، أبلغ الجنرال شوارزكوبف ، الذي قاد الهجوم على العراق عام ،1991 الكونغرس قبل ذلك بعام بالقول : " نفط الشرق الأوسط هو دم الحياة بالنسبة للغرب ، فهو مصدر الطاقة لنا حالياً ، ويشكل 77% من الاحتياطات النفطية في العالم الحر ، وسيبقى مصدرنا للطاقة عندما تجف المصادر الأخرى في العالم " . كان شوارزكوبف يتحدث عن الذروة النفطية التي كانت قد أصبحت حقيقة واقعة عام 1990 .
بعد أيام قليلة فقط من الغزو العراقي ، تحركت الولايات المتحدة لاستصدار قرار بفرض حظر اقتصادي شامل على العراق ، أتبعته في 16 يناير/كانون الثاني 1991 بحملة جوية وقصف بحري مدمر ، حيث أسقطت الطائرات الأمريكية والبريطانية والفرنسية والكندية وغيرها من الطائرات التابعة للتحالف ما يزيد على 88500 طن من القنابل ، التي دمرت البنية التحتية للعراق بما فيها المصانع والج
يزيد على 88500 طن من القنابل ، التي دمرت البنية التحتية للعراق بما فيها المصانع والجسور ، ومحطات توليد الطاقة الكهربائية ، ومنشآت الري ، وأنظمة الصرف الصحي وكل ما يحيط بها . تلا ذلك الحملة البرية التي لم تستمر أكثر من أربعة أيام ، ولكنها أدت إلى دفن الآلاف من الجنود العراقيين تحت رمال الصحراء وهم أحياء . وطبقاً لتقديرات الخسائر البشرية العراقية ، فإن ما بين 150 - 350 ألف عراقي لقوا حتفهم في حرب الخليج الأولى منهم 200 ألف عسكري .
بعد حرب الخليج الأولى بدا الأمر وكأن صدام حسين قد انتهى بالفعل ، غير أن السياسة الأمريكية تغيرت مجدداً . فلم يكن الهدف من الحملة العسكرية الأمريكية في الخليج الإطاحة بنظام صدام حسين ، فقد كانت الولايات المتحدة راغبة بإبقاء النظام ولكن بدون صدام حسين شخصياً ، بعد أن جمح في طموحاته فوق ما تسمح به الاستراتيجية الأمريكية .
في نهاية حرب الخليج عام ،1991 دعا جورج بوش الأب الشعب العراقي للإطاحة بصدام حسين . لم يكن بوش يخاطب الأكراد والشيعة أو أي قوى ديمقراطية للقيام بالمهمة ، بل كان يخاطب الجيش أو كوادر حزب البعث . وهنا يقول مدير ال" سي.آي.ايه " وليام ويبستر موضحاً : " لو كنا محظوظين وقتها ، كانت القوات المسلحة العراقية أو الكوادر في حزب البعث الذي يتزعمه هي التي قامت بالمهمة وأسقطت صدام " . كانت خشية واشنطن من حدوث ثورة شعبية في العراق أعظم بكثير من رغبتها في التخلص من صدام حسين في عام 1991.
استمرت استراتيجية الحرب السرية الأمريكية للهيمنة على النفط في العالم مع الحرب في البلقان ، وتوسعت حالياً من خلال حربها الجديدة التي أطلقت عليها اسم الحرب على الإرهاب عبر العالم .
" الحرب على الإرهاب.. حرب نفطية "
في عام 2001 صرح وزير الدفاع دونالد رامسفيلد بأنه على استعداد لنشر القوات الأمريكية في " 15 دولة أخرى " إذا تطلبت الحرب على الإرهاب مثل هذا الأمر ، وكانت " الحرب على الإرهاب " قد بدأت بأفغانستان لأنها كانت تشكل أهمية كبيرة بالنسبة للخطط الأمريكية ، الخاصة بالسيطرة على نفط وغاز بحر قزوين ، التي تشكل المرحلة التالية في استراتيجية الامبراطورية الأمريكية العالمية . كانت تلك طريقة شيطانية لبدء عملية تطويق عسكري أمريكي لعدو سابق ومحتمل في المستقبل هو روسيا ، إضافة لضمان سيطرة أمريكا على أهم الحقول النفطية المتبقية في العالم .
وفي السياق نفسه ، كانت حرب " الأمم المتحدة " في البلقان خلال عقد التسعينات ، وهي الحرب التي أدارتها واشنطن فعلياً من خلال الناتو ، فقد كانت في الواقع حرباً من أجل النفط وخطوط نفط بحر قزوين للأسواق الأوروبية عبر كوسوفو باتجاه موانئ المتوسط . فعندما رفضت يوغسلافيا السابقة التعاون مع صندوق النقد الدولي ، بدأت واشنطن في ظل كلينتون حملة منظمة لإشاعة عدم الاستقرار في يوغسلافيا ، مستخدمة المقاتلين الأصوليين الذين دربتهم ال" سي.آي.ايه " في أفغانستان . وهكذا تم تفكيك يوغسلافيا إلى دول مطواعة ، وتم احتواء دول الاتحاد السوفييتي السابق ، وكانت النتيجة : احتلال الولايات المتحدة لكوسوفو ، حيث أقامت أكبر قاعدة عسكرية منذ فيتنام هي قاعدة كامب بوند ستيل Camp Bond Steel .
كان الاعتقاد السائد في ذلك الوقت بأن منطقة بحر قزوين تضم احتياطات نفطية تصل إلى 206 مليارات برميل ، أي ما يعادل ، وطبقاً للتقديرات الأمريكية، 16% من إجمالي الاحتياط العالمي من النفط مقارنة ب 261 مليار برميل للسعودية ، و22 مليار برميل هي الاحتياطات الأمريكية . غير أن هذه التقديرات ، وكما سلف ذكره ، جاءت مبالغاً فيها ، الأمر الذي شكل أحد الأسباب الرئيسية للتراجع الكبير في أهمية أفغانستان على قائمة " الأولويات الأمريكية " ، في الوقت الذي كان فيه وولفويتز والبيت الأبيض يوجهان الماكينة الدعائية للتركيز على الهدف النفطي الأكبر ، وهو عراق صدام حسين .
كان هناك سوقان رئيسيان لنفط بحر قزوين ، إما الأسواق الأوروبية غرباً أو الأسواق الآسيوية جنوباً ، أما الخيار الأول فكان يتطلب نقل النفط عبر أنابيب تمر من الشيشان عبر البحر الأسود ومروراً بمضيق البوسفور إلى البحر المتوسط . غير أن مضيق البوسفور كان مزدحماً بالناقلات المحملة بنفط البحر الأسود . كما أن الأوضاع في الشيشان كانت ولا تزال ملتهبة بمباركة إن لم يكن بدعم أمريكي ضمني ، باعتبار أن حالة الفوضى هناك تعيق الخطط الروسية لمد خطوط نفط عبر الجمهورية التي تطالب بالانفصال .
كان السوفييت في السبعينات قد تحركوا للسيطرة على أفغانستان لأسباب نفطية كذلك . فما إن اكتشفت موسكو حقول بحر قزوين الواسعة ، حتى أدركت أهمية أفغانستان كطريق للأنابيب التي ستنقل ذلك النفط إلى موانئ المحيط الهندي مباشرة عبر الأراضي الأفغانية والباكستانية . كانت النتيجة حرباً سوفييتية في أفغانستان دامت عقداً كاملاً .
ومن جانبها ، أدركت حكومة الولايات المتحدة ، الواقعة تحت سحر النفط ، مخاطر خط الأنابيب المذكور ، علاوة على رغبتها في إضعاف السوفييت بكل الطرق الممكنة ، فكان أن وضعت إمكاناتها في تصرف الجماعات الأصولية التي اتجهت إلى أفغانستان للمشاركة في الجهاد ضد السوفييت .
أقامت القوات الأمريكية العديد من القواعد العسكرية العاملة في اوزبكستان وقرغيزستان وغيرهما من دول آسيا الوسطى ... ومن الواضح أن ما يطلق عليه استراتيجية مكافحة الإرهاب ، يستهدف في الأساس تعزيز الهيمنة الأمريكية على نفط الشرق الأوسط وجنوب آسيا ، في الوقت ذاته ، واحتواء دول الاتحاد السوفييتي السابق وتحييدها . وهذه الاستراتيجية تحتم الهيمنة على أفغانستان حتى في ظل التوقعات التي تقلل من حجم نفط بحر قزوين .
اتسمت ردود الفعل الروسية بالضعف أمام المد الأمريكي في آسيا الوسطى وأفغانستان ، كما لو كانت موسكو ، التي تدرك أنها لم تعد نداً قوياً أمام واشنطن ، توافق على التحركات الأمريكية تلك ، غير أن الروس وجدوا في الانضمام لمنظمة شنغهاي للتعاون SCO ، التي تضم إلى جانب روسيا كلاً من الصين وكازاخستان وقرغيزستان وطاجاكستان وأوزباكستان ، محاولة للحفاظ على هيمنتها التقليدية على آسيا الوسطى . غير أن المبرر الحقيقي لقيام المنظمة المذكورة يكمن في هيمنة أعضائها على المصادر الهائلة للنفط والغاز في منطقة بحر قزوين .
غير أنه وبغض النظر عن اعتراضات روسيا والصين والهند أو أي دولة أخرى ، فإن أفغانستان والعراق أصبحتا قاعدة رئيسية لعمليات الزعزعة والعزل والهيمنة على الأنظمة في الشرق الأوسط وجنوب آسيا . فأفغانستان هي جزء من القيادة العسكرية المركزية الأمريكية مثلها مثل العراق ، ولن يطول الوقت قبل أن تبدأ الولايات المتحدة بمد خط أنابيب عبر تركمنستان وأفغانستان وباكستان لإيصال النفط إلى الأسواق الآسيوية .
يذكر أن شركة Unocal ، التي تُعد رأس الحربة في مصالح شركة ستاندارد أويل ، حاولت وعلى مدار عدة عقود إقامة خط أنابيب لنقل نفط وغاز بحر قزوين عبر أفغانستان وباكستان إلى موانئ المحيط الهندي جنوباً . إلاّ أن الشركة ، التي تتخذ من كاليفورنيا مقراً لها وتملك 46،5% من حصة شركة غاز آسيا الوسطى Cent Gas ، وهي مجموعة تخطط لمد أنبوب الغاز عبر أفغانستان ، انسحبت من المشروع عام 1998 بعد أن يئست من إمكانية تحقيقه . كانت الخطة تقضي بمد أنبوب الغاز بطول 1271 كلم ليربط حقول غاز دولتباد في تركمنستان بميناء مولتان الباكستاني بكلفة 1،9 مليار دولار ، كما أن استثمار 600 مليون دولار إضافية من شأنه أن يصل بالخط إلى موانئ الهند المتعطشة للطاقة .
في ربيع ،2001 أي قبل ستة أشهر من هجمات 11 سبتمبر ، وقع ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي ، الذي كان على رأس شركة هاليبرتون قبل ذلك ، عقداً رئيسياً مع شركة نفط أذربيجان لتطوير قاعدة بحرية لدعم عمليات التنقيب عن النفط في مياه بحر قزوين . وطبقاً لبيان صادر عن هاليبرتون في مايو/ أيار ،2001 فإن تشيني كان واضحاً في حديثه عن أهمية السيطرة على نفط بحر قزوين قبل أن يصبح نائباً لرئيس الولايات المتحدة .
وكانت شركة Unocal المرتبطة بال " سي. آي. ايه " ، والتي جعلت من هنري كيسنجر مستشاراً لها ، قد عمدت إلى قطع علاقاتها بنظام طالبان عام 1998 بعد أن تبين لها ان طالبان غير قادرة على ضمان السيطرة على كامل الأراضي الأفغانية ، وبالتالي توفير البيئة السياسية والأمنية المستقرة لمشروع خط الأنابيب المذكور . ويبدو أن مجلس العلاقات الخارجية أدرك في هذه اللحظة أن السيطرة على أفغانستان أصبحت أمراً حتمياً ، فكان أن خرجت النخبة في المجلس ، وفي واشنطن وال " سي. آي. ايه " ، والبنتاجون وشركة هاليبرتون ، بالتصور الخاص " بالحرب على الإرهاب " . وبعد اسقاط نظام طالبان بحجة الحرب على الإرهاب ، عاد أمراء الحرب وتجارة المخدرات إلى حكم البلاد من جديد ، ونجحت الولايات المتحدة في فرض نظام عميل في كابول .
يذكر أن الرئيس الأفغاني الحالي حميد قرضاي عمل كمستشار لشركة Unocal خلال تفاوضها مع طالبان لإنشاء خط أنابيب Cent Gas عبر أفغانستان. وبالإضافة إلى كونه أحد قادة المجاهدين في الحرب على الوجود السوفييتي ، فإن قرضاي كان على اتصال مباشر مع وليام كيسي ، مدير ال " سي. آي. ايه " ، ونائب الرئيس جورج بوش ، والاستخبارات العسكرية الباكستانية . وبعد الاندحار السوفييتي من أفغانستان ، عملت ال " سي. آي. ايه " على نقل قرضاي وعدد من إخوته إلى الولايات المتحدة لإعداده للدور الكبير القادم له في أفغانستان .
الواقع أن الدوافع الحقيقية لحرب إدارة بوش في أفغانستان كانت جلية لكل من يتابع تقارير ال" سي. إن. إن C.N.N والواشنطن بوست Washington Post " ، فقد اجتمع السفير الأمريكي في باكستان ويندي شامبرلين Wendy Chamberlain مع وزير النفط الباكستاني عثمان أمين الدين في يناير/ كانون الثاني 2002 لاستكمال مناقشة الخطط الخاصة بإنشاء خط النفط والغاز عبر أفغانستان وباكستان ، وتشجيع الباكستانيين على المضي قدماً في بناء محطة تحميل النفط على بحر العرب .
ومنذ الغزو الأمريكي لأفغانستان وتنصيب قرضاي رئيساً للبلاد ، والقوات الأمريكية تحاول جاهدة تأمين أعمال إنشاء الأنبوب المذكور ، تاركة مهمة حفظ الأمن في المدن الأفغانية للقوات الدولية ، بما فيها القوات الألمانية التي تشارك في العملية خروجاً على الدستور الألماني الذي يحظر إرسال الجنود الألمان للخدمة في الخارج .
ولضمان استمرار العمل في مشروع خط أنابيب عبر أفغانستان ، تم تعيين الأفغاني الأصل زلماي خليل زادة ، وهو عضو سابق في مشروع Cent Gas التابع لشركة Unocal مساعداً لمستشار الأمن القومي ، وبعدها مبعوثاً خاصاً للرئيس بوش في أفغانستان . وخليل زادة ينتمي إلى قبائل الباشتون كما هو الحال مع قرضاي ، وهو ابن مسؤول حكومي كبير عمل في سنوات الملك ظاهر شاه . وإلى جانب عمله كمستشار لمؤسسة راندة Rand ، أعد خليل زادة العديد من التحليلات الخاصة بمخاطر المشروع تحت إدارة كوندوليزا رايس Condoleezza Rice ، عندما كانت تعمل عضواً في مجلس إدارة شركة شيفرون Chevron . هذا ، وبعد تراجع أهمية أفغانستان بالنسبة للإدارة الأمريكية ، قرر بوش الاستعانة بخليل زاد كمبعوث خاص له إلى العراق .
ما إن انتهت " الحرب الأمريكية على الإرهاب " في أفغانستان واستكمال الانتشار العسكري الأمريكي في المنطقة من خلال القواعد الجديدة في دول آسيا الوسطى ، حتى تحول التركيز الأمريكي إلى العراق في وقت تمضي فيه إدارة بوش في رسم خططها الخاصة بالحروب الإمبريالية النفطية في أماكن أخرى من العالم ، مثل فنزويلا ونيجيريا وغينيا الاستوائية وحتى في روسيا .
وكانت الولايات المتحدة قد ناصبت دكتاتور نيجيريا السابق الجنرال سانا أباشا العداء . وعندما توفي أباشا في وقت لاحق من عام 1999 في ظروف غامضة ، بادرت واشنطن إلى استئناف مساعداتها العسكرية للنظام الجديد ، الذي يتزعمه المسيحي اوباسانجا المقرب من بوش .
وفي عام ،2003 تضاعفت المساعدات الأمريكية للحاكم النيجيري الجديد ، الأمر الذي تزامن مع بدء الجنرالات الأمريكيين مفاوضات مع نظام اوباسانجا الصديق لإقامة قواعد عسكرية أمريكية دائمة في منطقة خليج غينيا الغنية بالنفط ، وتحديداً على جزيرتي برنسيبي وساو تومي الصغيرتين .
جاءت الحرب الأمريكية على العراق والإطاحة بصدام حسين لتنهي سائر العقود والاتفاقيات المبرمة سابقاً مع دول مثل روسيا وألمانيا وفرنسا ، الأمر الذي يفسر سر معارضة هذه الدول للحرب الأمريكية على العراق قبل أن تبدأ . كما أن المحللين يضعون الضغط على الصين ضمن أهداف التحرك الإمبريالي الأمريكي في السيطرة على المنابع وطرق الإمدادات النفطية ، خاصة أن الصين تجاوزت اليابان عام 2004 في حجم الواردات النفطية ، لتصبح ثاني أكبر مستورد للنفط في العالم .
" القيادة المركزية ومبادرة الشرق الأوسط الكبير "
بعد السيطرة على النفط العراقي ، تحولت أنظار الإمبرياليين في واشنطن إلى النفط السوري والنفط الإيراني ، حيث دخلنا الآن في المرحلة الثانية من الحرب على الإرهاب ، وهي غزو الدول التي تؤوي الإرهابيين ، أما الهدف الفعلي فهو الاستيلاء على مصادر الطاقة في البلدان المعنية . ومن المفترض أن يتم هذا الغزو تحت غطاء حملة كبيرة جديدة من أجل الديمقراطية وفرض الإصلاحات الاقتصادية " لتحديث العالم الإسلامي المتخلف الكئيب " ، طبقاً لوصف بيرنارد لويس Bernard Lewis أحد رموز المحافظين الجدد .
إذا كانت مبادرة بوش المسماة " الشرق الأوسط الكبير " هي الوجه الظاهر للحرب العالمية الرابعة المفتوحة التي تشنها الولايات المتحدة منذ 11 سبتمبر ، فإن الوجه الحقيقي لهذه الحرب هو القيادة المركزية USCENTCOM ، وهي واحدة من أربع ممالك عسكرية عالمية تم توزيع العالم عليها في المخطط الأمريكي ، ويرأس المملكة هذه ، وهي القيادة المركزية ، الجنرال العربي الأصل جون أبي زيد ، الطالب السابق في الجامعة الأردنية ، والذي يقال إنه يجيد العربية تماماً . وكان أبي زيد قد قاد الهجوم العسكري الأمريكي اللامشروع على كوسوفو عام ،1999 وهذا الإنجاز من جملة انجازات أهلته لتبوء الموقع القيادي العسكري المذكور .
ما إن ركد غبار قصف بغداد عام 2003 حتى شرعت إدارة بوش في إطلاق حملتها الايديولوجية لتبرير المزيد من الحروب النفطية للسيطرة على إيران وسوريا وباقي الشرق الأوسط ، تحت شعار مبادرة الشرق الأوسط الكبير . وكما يقول المحلل السياسي في صحيفة " لوموند LeMonde الباريسية جيلبرت اتشكار Gilbert Achcar " في العدد الإلكتروني الصادر في ابريل/ نيسان ،2004 فإن مشروع بوش كان مجرد تخيل لمنطقة لا وجود لها على أرض الواقع ، ومحاولة لتحقيق الطموح الأمريكي الخاص بتشديد قبضة الولايات المتحدة على الثروات النفطية وأسواق الشرق الأوسط ، وتوسيع رقعة تواجدها العسكري ، وكل ذلك يتم باسم " دمقرطة " الشرق الأوسط .
ومضى أتشكار Achcar في القول : " تسوق إدارة بوش ثلاثة مبررات رئيسية لغزوها العراق ، أولها الحرب المعلنة على الإرهاب بعد 11 سبتمبر/ ايلول ،2001 والثاني التهديد الذي تمثله أسلحة الدمار الشامل . ومع ثبات زيف المبررين الأول والثاني بعد أسابيع من احتلال العراق ، حيث لم تصمد الادعاءات الأمريكية والغربية الخاصة بعلاقة صدام بالقاعدة أو امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل ، فقد خرجت إدارة بوش بالمبرر الثالث الذي أخذ يكتسب المزيد من الأهمية مع مرور الوقت ، وهو الرغبة في تحويل العراق إلى نموذج للديمقراطية يحتذى في عموم الشرق الأوسط " .
وأضاف المحلل الفرنسي قائلاً : " كان مصدر المبررات الثلاثة المذكورة لغزو العراق هم المحافظون الجدد في إدارة بوش ، وبخاصة في البنتاجون . ففي عشية غزو العراق ، وقف بوش أمام معهد المشروع الأمريكي للدراسات ، متحدثاً عن طموحاته في نشر القيم الديمقراطية في الشرق الأوسط . كان مستمعوه في معظمهم من المحافظين الجدد وأنصار " اسرائيل " المتحمسين لها بصورة عمياء . ومما قاله بوش مفتخراً ، أنه استعار 20 من خبراء ومفكري المعهد للعمل في إدارته . بعدها في 9 مايو/ أيار ،2003 ولإظهار نوع القيم التي يسعى لنشرها في المنطقة ، اقترح بوش " إقامة منطقة تجارة حرة أمريكية شرق أوسطية في غضون عشرة أعوام " . وبالنسبة للمحافظين الجدد ، الذين يملون على بوش قراراته ، فإن مشروع الشرق الأوسط الكبير يغطي منطقة واسعة لدرجة أنها تشمل دول آسيا الوسطى ، وإن كانت الدبلوماسية الأمريكية تتعمد الغموض بهذا الشأن . الواقع أن حدود الشرق الأوسط الكبير ، كما وصفتها إدارة بوش ، جاءت متطابقة مع الحدود الجغرافية التي تغطيها القيادة المركزية التي أعاد البنتاجون تنظيمها لتشمل عشرين بلدا ً.
عندما أطلقت واشنطن مبادرتها الخاصة بالشرق الأوسط الكبير ، طرح الصحافي دي. ال. يونج L.D Young السؤال المنطقي التالي : " هل تخوض الولايات المتحدة المزيد من الحروب لتحقيق الديمقراطية في الشرق الأوسط ؟ لقد عرضت واشنطن مبادرتها الخاصة بالشرق الأوسط الكبير ، وقالت إدارة بوش إنها ترغب في جعل نشر الديمقراطية جزءاً مركزياً من الحرب التي أعلنتها على الإرهاب " . بعد الإعلان عن الخطة ، أبلغ أحد مسؤولي وزارة الخارجية صحيفة " الواشنطن بوست " قائلاً : " هناك اعتقاد بأن هيلسنكي Helsinki أسهمت في توحيد الصف الأوروبي ، ولعبت دوراً مهماً في تفكيك الاتحاد السوفييتي . وبالطريقة نفسها ستعمل فكرة الشرق الأوسط الكبير على تمزيق قدرة الأصولية الإسلامية على اجتذاب الناس " .
في نوفمبر/ تشرين الثاني ،2003 تحدث بوش مجدداً عن تلبية " نداء التاريخ " والتحرك لمنح الشرق الأوسط " نعمة الديمقراطية التي وهبها الله لنا ". ومما قاله بوش وقتها ، ان ما يعرضه هو " استراتيجية الحرية للشرق الأوسط " . وفي ظل ما يمكن وصفه بطموح بوش الذي لا يقف عند حدود ، فإن هناك من الأسباب ما تدفع للاعتقاد بأن الرئيس الأمريكي لن يسمح لشيء بعرقلة مشروعه . وكما قال وكيل وزارة الخارجية ريتشارد ارميتاج خلال الاستعدادات الأمريكية للحرب على العراق " سنقضي عليهم واحداً تلو الآخر " كما يحصل في " مباراة المصارعة " .
تصف وزارة الدفاع القيادة المركزية CENTCOM بالقول " تغطي مسؤوليات القيادة المركزية عشرين بلداً تتباين من النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية والجغرافية ، حيث تنتمي لقارات أوروبا وآسيا وإفريقيا ، وتشكل مهداً للأديان السماوية الثلاثة ، المسيحية واليهودية والإسلام ، كما تشغل مساحة أكبر من الولايات المتحدة تمتد إلى حوالي 3100 ميل من الشرق للغرب ، و3400 ميل من الشمال للجنوب ، وهذه البلدان الواقعة ضمن مسؤولية القيادة المركزية هي : أفغانستان ، البحرين ، جيبوتي ، مصر ، ارتيريا ، اثيوبيا ، الأردن ، إيران ، العراق ، كينيا ، الكويت ، عُمان ، باكستان ، قطر ، السعودية ، سيشيل ، الصومال ، السودان ، الإمارات العربية المتحدة واليمن " .
ويمضي تقرير البنتاجون بالقول : " تحتوي هذه المنطقة على 70% من إجمالي احتياطات العالم من النفط، الأمر الذي يجعلها حيوية بالنسبة لاقتصادات الولايات المتحدة وحلفائها . كما أن المنطقة تتحكم بطرق التجارة البحرية الرئيسية التي تربط الشرق الأوسط وأوروبا وشرق آسيا والنصف الغربي من الكرة الأرضية ، إضافة إلى الممرات البحرية الرئيسية في العالم مثل قناة السويس ومضيق هرمز " .
" نفط أمريكا اللاتينية "
النفاق هو أحد جوانب الوجه الآخر للحرب على الإرهاب التي أعلنها بوش . ففي كولومبيا تنفق الإدارة الأمريكية ملايين الدولارات في محاولة يائسة لتوفير الحماية لخط نفط شركة اوكسدنتال بتروليوم Petroleum Occidental ، الذي يمتد بطول 480 ميلاً ، ليصل ثاني أكبر حقول النفط في كولومبيا بالساحل الكاريبي ، وتضاف هذه المبالغ لحوالي 1،3 مليار دولار منحتها واشنطن للحكومة الفاشية في كولومبيا لدعم حربها على ما تطلق عليهم " إرهابيي المخدرات " ، وكان خط أنابيب كانوليمون Canolimon قد أغلق عام 2001 لأكثر من 266 يوماً بعد تعرضه لأعمال تخريب على يد متمردي حركة القوات المسلحة الثورية الكولومبية FARC ، مما نجم عنه تسرب 2،5 مليون برميل من النفط في أنهار وأودية كولومبيا ، أي حوالي عشرة أضعاف حجم كارثة التسرب النفطي في ألاسكا عام 1989.
إن دخول بوش حلبة الصراع الدائر في كولومبيا منذ 38 عاماً ، والذي خلف أكثر من 40 ألف قتيل في العقد الماضي وحده ، يعني التورط في صراع دموي على السلطة بين الحكومة الفاشية والجماعات المعارضة ، مثل حركة القوات المسلحة الثورية FARC . وجيش التحرير الوطني ELN . وإذا كانت مبررات إدارة بوش في إنفاق أموال دافعي الضرائب الأمريكيين في أفغانستان ملاحقة ابن لادن وحركة القاعدة المسؤولة عن هجمات 11 سبتمبر ، فإن المبرر الوحيد لإنفاق هذه الأموال في كولومبيا يكمن في مواجهة الحركات الثورية التي تهدد مصالح الشركات النفطية الأمريكية وليس أرواح الأمريكيين .
وطبقاً لتقارير وزارة الطاقة الأمريكية ، فإن إنتاج كولومبيا من النفط ارتفع من مجرد 100 ألف برميل يومياً في أوائل الثمانينات إلى حوالي 844 ألف برميل يومياً في أوائل 1999. أي بزيادة 750% ، كما تضاعفت الصادرات النفطية الكولومبية للولايات المتحدة لتصبح كولومبيا حالياً سابع أكبر مزود للنفط للأسواق الأمريكية . كما تضم كولومبيا احتياطات كبيرة من النفط والغاز تصل إلى 20 مليار برميل ، تضاف إلى 73 مليار برميل هي احتياطات جارتها فنزويلا ، الأمر الذي يفسر حقيقة أن كولومبيا وفنزويلا أصبحتا تشكلان أحد أهداف الاستعمار النفطي حالياً . فالواردات النفطية الأمريكية من كولومبيا وجارتيها فنزويلا والأكوادور تتجاوز حجم الواردات الأمريكية من نفط الخليج .
ومن الحقائق المثيرة في " حرب الولايات المتحدة على الإرهاب " في أمريكا الجنوبية ، أن إدارة بوش وعلى عكس ما تفعله في أفغانستان ، لا تعير اهتماماً لتدمير العديد من عصابات المخدرات ، لسبب وجيه وهو أن الإدارة الأمريكية والقوة المصرفية المتنفذة ، المتمثلة في كبار بنوكها ، متورطتان في الصفقات المالية الهائلة التي تصل إلى 1،5 تريليون دولار سنوياً ، الناجمة عن تجارة المخدرات الدولية .
قد يبدو من الصعب استيعاب حقيقة أن البنوك والمؤسسات الأمريكية متورطة في غسل أموال المخدرات ، غير أن التقارير بهذا الشأن أكثر من أن يتم تجاهلها ، حتى من قبل وسائل الإعلام الخاضعة لهيمنة النخبة السلطوية في الولايات المتحدة . ففي عام ،1983 أشار تقرير لشبكة ABC التلفزيونية الأمريكية إلى أن أصابع الاتهام وجهت لأكثر من 250 مصرفاً أمريكياً بالتورط في نشاط غسل أموال المخدرات ، وبرز من بين هذه المصارف اسماء بنوك عملاقة ، مثل سيتي بانك Citibank ، وماريين ميدلاند Marine Midland ، وتشيز منهاتن . وطبقاً لشهادة كبير المحاسبين والمشرف على عمليات غسيل الأموال لدى عصابة ميدلين للمخدرات ، المدعو رامون ميليان رود ريغاز Rodriguez Ramon Milian، أمام لجنة الكونجرس الفرعية عام ،1988 فإن " البنوك الأمريكية كانت على علم بمصدر الأموال وبحقيقة مع من كانت تتعامل... " .
" استراتيجية غزو العالم "
في كتابه المعنون " رقعة الشطرنج العظيمة " ، كشف برزيزنسكي كيف أن المؤامرة الأمريكية للسيطرة على العالم تطلبت حدثاً بحجم ما حصل يوم 11 سبتمبر ، وفي ذلك يقول برزيزنسكي : " مع تحول أمريكا ، وبشكل متزايد إلى مجتمع متعدد الثقافات ، فإنها قد تجد صعوبة في تأمين إجماع على قضايا السياسة الخارجية ، إلاّ في حالات التعرض لتهديد خارجي مباشر وكبير وحقيقي ... " ، مثل هذا القول لا يختلف بشيء إن لم يكن تكراراً للتصريح الصادر عن ديفيد روكفلر ، عضو مجلس العلاقات الخارجية واللجنة الثلاثية وبنك تشيز منهاتن ، الذي جاء فيه القول : " نحن على أعتاب تحول عالمي ، وكل ما نحتاجه هو أزمة مناسبة وعندها سيتقبل الجميع النظام العالمي الجديد " .
وكما يقول برزيزنسكي مجدداً : " إن السعي وراء السلطة ، وخاصة ما يترتب على ممارسة هذه السلطة من كلفة اقتصادية وتضحيات انسانية وغيرها من المتطلبات ، أمور لا تتجانس والغرائز الديمقراطية ... فالديمقراطية والحشد الإمبريالي على طرفي نقيض " .
وقبل ذلك ، نجد أن صامويل هنتنجتون ، مؤلف كتاب " صراع الحضارات " الخاص بأيديولوجية الحرب على الإسلام ، يقول مبرراً ضرورة تخلي الأمريكيين عن حريتهم من أجل هذه المشاريع : " دعونا نفترض أن مقتضيات المستقبل تشير إلى نتيجة مؤداها أن الأنظمة الدكتاتورية أو حتى الثورية ، هي وحدها القادرة على القيام بالمهمة العظيمة المتمثلة في إعادة الهيكلة الاجتماعية المطلوبة لتجنب الكارثة . وهنا يمكن القول إن الحماسة والتضحيات التي ترافق مثل هذه المهمة ، ستذهب سدى في حالة وقوع الجماهير تحت ضغوط الانقسامات والخلافات ، التي عادة ما يتسبب بها المثقفون الذين يغردون خارج السرب الرسمي " .
الجدير بالذكر أن مثل هذا القول صدر لأول مرة خلال أزمة النفط العالمية بين عامي 1974 ،1975 وجاء بمثابة إشارة واضحة إلى ما كان يخطط له القائمون على مجلس العلاقات الخارجية لما يحدث اليوم في حقبة الذروة النفطية .
الاستيلاء على النفط العربي.. خطوة خطوة
الى جانب كونها مهداً لإحدى أقدم الحضارات في التاريخ ، فقد شهدت أرض العراق أول اكتشاف للنفط يتم تسجيله ، وكان ذلك قبل خمسة آلاف عام في مدينة هيت القديمة غير بعيد عن بغداد ، وقتها كانت بقع من النفط المتسرب من باطن الأرض تظهر على السطح من خلال التصدعات والشقوق الأرضية عبر المناطق التي تعرف الآن بالعراق وإيران ( فارس تاريخيا ) وشبه الجزيرة العربية . وكان الغاز المتسرب من الشقوق الأرضية يشتعل ، مشكلا ظاهرة غريبة بالنسبة للأهالي الذين كانوا ينظرون اليها من زاوية إعجازية دفعت ببعض الطوائف الى عبادة النار ، أما القطران الذي كان يتجمع على السطح من النفط المتسرب ، فكان له استخداماته العديدة كدواء وكسلاح وقت الحروب بعد مزجة بالكلس ، بل إن الأضرار الجسيمة التي كان يحدثها في صفوف الأعداء من جراء ما يتسبب به من حرائق ، جعله سلاحاً للدمار الشامل في مقاييس ذلك العصر . والآن وبعد آلاف السنين ، تحول النفط الى هدف رئيسي من غزو العراق من قبل بوش والمحيطين به من المحافظين الجدد ، الذين وضعوا نصب أعينهم السيطرة على منابعه .
من المثير فعلا أن تكون أولى حروب النفط في القرن العشرين قد دارت على أرض العراق ، فمن أجل حماية شركة النفط الانجليزية الفارسية ومصفاة عبادان ، أرسلت الامبراطورية البريطانية ، في بداية الحرب العالمية الأولى، بالجيش الهندي الى المنطقة للاستيلاء على البصرة والعراق في الحملة التي عرفت ب “حملة بلاد ما بين النهرين”، التي دامت أربع سنوات. وطبقا لما أورده المؤلف انطوني كيف براون Antony Cave Brown في كتابه: “النفط... الله... والذهب”، فإن قوات الاستعمار البريطاني فقدت 252 ألف جندي بين قتيل وأسير ومصاب في واحدة من أسوأ الصراعات، الأمر الذي يعكس مدى الأهمية التي كانت توليها بريطانيا للخليج وثروته النفطية. كما أن المثير فعلا، أن تكون آخر الحملات النفطية التي تشنها الامبراطورية الأمريكية الجديدة في أوائل القرن الحادي والعشرين موجهة ضد العراق وعلى أرضه.
وكانت السلطات الأمريكية قد أعدت خططا مفصلة للاستيلاء على النفط العربي في أوائل السبعينات ، سواء من خلال الشركات النفطية أو بالتدخل العسكري المباشر ، بل إن الحديث عن هذا الامر يعود إلى قبل ذلك بكثير ، ففي الحرب العالمية الثانية ، كتبت قيادة الأسطول الأمريكي مذكرة مرفوعة للرئيس روزفلت ، تتضمن اقتراحا بالاستيلاء على حقول نفط أرامكو في السعودية ، باعتبار أن الحصول على احتياطات نفطية خارج الاراضي الأمريكية أصبح من المصالح الحيوية للولايات المتحدة . وقبل ذلك في الحرب العالمية الأولى ، حصلت البحرية البريطانية على الجزء الأكبر من ملكية الشركة الانجليزية الفارسية للنفط ، والتي أعيد تسميتها لتصبح بريتش بتروليوم (BP) ، وقامت بتعيين ضباط في البحرية ضمن مجلس إدارة الشركة . وفي 30 يونيو/حزيران ،1943 صادق الرئيس الأمريكي على إقامة مؤسسة الاحتياطات البترولية ، التي ستتملك كامل امتيازات " ارامكو " في السعودية ، وتم تعيين وزير الداخلية هارولد آيكس (Harold Ickes) على رأس الشركة ، ووزراء الحرب والأسطول والخارجية أعضاء في مجلس إدارة الشركة ، حيث تم عقد أول اجتماع بتاريخ 9 اغسطس/آب 1943 بحضور نائب وزير الحرب جون مكلوي John Mcloy .
وبتاريخ 8 أبريل/نيسان 2003 أي قبل بضعة ايام من الغزو الأمريكي واحتلال العراق، نشرت ال " واشنطن بوست " مقالا مثيرا للكاتب جون مكسالين John Mccaslin تحت عنوان " خطة كيسنجر " جاء فية القول : " لو سألت النائب جون كونيارز John Conyers عن قراءته في هذه الاوقات المقلقة ، فسيخرج لك نسخة من مجلة " مذر جونز Mother Jones " .
الواقع أن ما أثار اهتمام النائب الديمقراطي عن ولاية ميشيغان في المجلة ، مقالة حديثة عن التحركات الأمريكية الخاصة بإقامة وجود أمريكي دائم في الشرق الاوسط ، لدرجة أن النائب حرص على اصطحاب المجلة معه الى قاعة المجلس . فالنائب كونيارز يعتقد بأن النفط هذا ، الذي يحرك القوة العسكرية ويدعم الميزانيات القومية ، ويثير السياسات الدولية ، لم يعد مجرد سلعة تباع وتشترى ضمن حدود موازين العرض والطلب في السوق التقليدية للطاقة ، بل تحول الى عامل حسم في قضايا الأمن القومي والقوة العالمية " .
ومن أبرز ما جاء في مقالة للكاتب روبرت دريفوس Robert Dreyfuss في المجلة القول : " إن المفتاح الرئيسي للأمن القومي في التصور السياسي وراء السياسة الأمريكية الحالية تجاة العراق ، يكمن في الهيمنة العالمية والسيطرة على جميع المنافسين المحتملين . وفي سبيل تحقيق ذلك ، فإنه لا يكفي أن تكون الولايات المتحدة قادرة على نشر قوتها العسكرية في كل مكان وفي أي زمان فحسب ، بل إن عليها السيطرة على المصادر الرئيسية ، ومنها النفط ونفط الخليج بوجه خاص " .
وينقل المقال عن السفير الأمريكي في السعودية في عهد الرئيس بوش الأب ، شاز فريمان Chas Freeman القول : " إن الإدارة الجديدة تعتقد بأن السيطرة على المصادر هي وحدها التي تضمن القدرة على الوصول اليها " . وفي ظل تراجع الإنتاج النفطي في ألاسكا والمحيطات ، فإن الإدارة الأمريكية " ترى في نفط العراق مصدراً متاحاً ورخيصاً ، حيث لا يكلف إنتاج برميل أكثر من 1،5 دولاراً ، الأمر الذي يجعل النفط العراقي الأرخص إنتاجا على المستوى العالمي " ، إنها خطة كيسنجر القديمة كما يرى السفير الأمريكي السابق لدى السعودية جايمس اكينز ، الذي خدم في عهد كيسنجر . ويضيف اكينز : " اعتقدت أن الخطة ماتت ، إلا إنها أعيدت للحياة كما هو واضح " ، ويقول اكينز : " انه في أعقاب الصدمات النفطية في السبعينات ، تسربت للصحف الأمريكية أنباء عن وجود خطط أمريكية للاستيلاء على حقول النفط العربية بعدها أقدمت على خطأ جسيم ، فقد قلت في مقابلة تلفزيونية إن أي أحد يجرؤ على اقتراح مثل هذا الأمر سيكون إما شخصاً مجنوناً أو مجرماً أو عميلاً للاتحاد السوفييتي " ، بعدها تبين لاكينز أن الشخص المجنون أو المجرم هذا لم يكن سوى رئيسه الوزير كيسنجر ، الذي قيل إنه عرض مقترحه لاحتلال منابع النفط العربية خلال اجتماع رئيسي ضم كبار أركان الإدارة الأمريكية . وبعد تصريحات اكينز المثيرة بوقت قصير ، قام كيسنجر بطرده من الخدمة .
" كيسنجر وحرب أكتوبر 1973 "
لعب هنري كيسنجر دوراً رئيسيا في الترتيب لحرب أكتوبر ،1973 لأهداف اقتصادية وسياسية أمريكية كان أحدها رفع الأسعار 400% ، فقد تم الإعداد للحرب في سلسلة من الاجتماعات التي ضمت هنري كيسنجر وأنور السادات الذي أرسل مبعوثه الخاص حافظ اسماعيل للالتقاء سرا بالوزير الأمريكي عدة مرات . كانت خطة كيسنجر تقضي بترتيب إشعال حرب محدودة بين " إسرائيل " وكل من مصر وسوريا ، لتمهيد الطريق أمام صلح منفرد بين " إسرائيل ومصر " ، والتسبب برفع أسعار النفط ، وهما هدفان يصبان في مصلحة السياسة الأمريكية في المقام الأول . فعندما أقدم السادات على طرد المستشارين الروس من مصر ، طلب وزير الدفاع ميلفن ليارد Melvin Liard من الرئيس نيكسون المباشرة بمفاوضات سرية مع السادات ، وهو لا يعلم بأن مثل هذه القنوات مفتوحة مع مصر منذ بعض الوقت . وللإعداد للحرب والجولات المكوكية التي أعقبتها ، تم عقد اجتماعات مكثفة بين كيسنجر والمبعوثين المصريين .
وفي زيارته للولايات المتحدة في فبراير/شباط ،1973 رتب كيسنجر لمبعوث السادات حافظ اسماعيل جدول زيارة تقليديا في الظاهر ، يشتمل على لقاء مع الرئيس نيكسون أولا ، ومن ثم عقد مشاورات روتينية مع كبار مسؤولي وزارة الخارجية . أما جدول الزيارة الفعلي ، الذي لم يطلع عليه أحد في الخارجية ، فكان يتركز على عقد اجتماعات سرية مع كيسنجر لمدة يومين في منزل خاص اعد لهذا الغرض في إحدى ضواحي نيويورك ، وفي ذلك يقول كيسنجر مستذكرا : " لم أشارك أيا من المسؤولين في وزارة الخارجية في اجتماعات مبعوث السادات . وفي الوقت ذاته ، فإن وزارة الخارجية لم تكن على علم بأي من الاجتماعات السرية التي عقدتها مع اسماعيل على مدار يومين ، لاستعراض شامل للعلاقات المصرية الأمريكية " . وقبل وصول اسماعيل الى واشنطن ، كتب نيكسون الى كيسنجر يقول : " لقد حان الوقت للتوقف عن رعاية المواقف الإسرائيلية المتصلبة ، فقد أدت مواقفنا السابقة الى ترسيخ انطباع لديهم بأننا سنقف بجانبهم حتى في ممارساتهم اللامنطقية " . جاءت خطة كيسنجر على عكس موقف الرئيس نيكسون وتوصياته ، ومؤيدة لخط إسرائيل في قرارها بتاريخ 19 يونيو ،1967 الذي ينص على إمكانية الدخول في مفاوضات مع المصريين والسوريين ولكن ليس حول الضفة الغربية وغزة .
كان كيسنجر يخطط لإهمال الاردن واستبعاده من مفاوضات الخطوة خطوة ، بل وطلب من السادات والزعماء العرب الآخرين من أصدقاء الولايات المتحدة بضرورة إبعاد الأردن عن موضوع الضفة الغربية ، وهو ما تحقق في القمة العربية المنعقدة في الرباط بعد ذلك . بتاريخ 6 مارس 1973 تم إطلاع السعوديين على ما يجري في قناة مباحثات اسماعيل كيسنجر السرية . كانت السعودية هي أكبر منتج للنفط ، وسيكون لها دور رئيسي في عملية حظر النفط العربي عن الغرب وللزيادة المتوقعة في أسعاره ، وفي الوقت نفسه ، حصل تطور آخر بالانخفاض الكبير الذي طرأ على سعر الدولار بنسبة 40% مقابل المارك الالماني خلال شهري فبراير ومارس ،1973 وأصبح النظام المالي العالمي يعيش حالة من التقلب المتزايد . في مارس ،1973 زارت غولدا مائير Golda Meir ، رئيسة وزراء إسرائيل الولايات المتحدة ، حيث رفضت ، وكما هو متوقع منها ، أفكار نيكسون والخضوع لأي ضغوط لتغيير موقف إسرائيل المتعنت . أبلغت غولدا مائير نيكسون بأن العرب لا يملكون أي خيار عسكري ، وبأن الوضع بالنسبة لإسرائيل لم يكن أفضل مما هو عليه الآن. بتاريخ 11 أبريل 1973 تم عقد الاجتماع الثاني بين كيسنجر واسماعيل ، وكانت الاستعدادات الحربية قد بدأت بعد اجتماعهما الأول ، حيث تم تحريك قوات من دول عربية حليفة لامريكا الى الجبهتين المصرية والسورية ، بعلم وموافقة ضمنية من واشنطن . وفي هذا الصدد ، تم تحريك طائرات سعودية الى مصر ، ووحدات مغربية الى سوريا . وهكذا وفي 20 أبريل ،1973 صدر عن ال " سي. آي. ايه " تقرير سري يؤكد أن عملاً عسكرياً يلوح بالافق وإن كانت ساعة الصفر لم تحدد بعد . بعدها بأيام تم عقد اجتماع للجنة بيلدبيرغ لوضع التفاصيل السياسية الدقيقة ، وتوزيع المهام على المشتركين في تنفيذ الخطة الخفية للمنظمة . وفي أقرب ما يكون الى سيناريو أحد أفلام هوليوود الناجحة ، عملت واشنطن ولندن على ترتيب حرب السادس من أكتوبر 1973 بين مصر وسوريا من جهة ، وإسرائيل من جانب آخر ، لعب كيسنجر فيها دور المخرج والممثل ، كما شارك في كتابة النص الذي تولته في الأساس لجنة بيلدبيرغ .
" الاستعداد لزيادة أسعار النفط قبل الحرب "
في مايو ،1973 عقد 84 من كبار رموز السياسة والمال في الغرب اجتماعا لهم في فيلا عائلة والنبيرغ Wallenburg المالية اليهودية المتنفذة في السويد ، والواقعة في جزيرة سولتجوبيدر Saltsjoeboder ، وكان من بين الحضور هنري كيسنجر وعدد من كبار مديري الشركات النفطية والمصارف والمؤسسات المالية العالمية . كان الموضوع الرئيسي قيد البحث هو الاستعداد ( وليس منع ) للزيادة المتوقع تسجيلها في أسعار النفط في المستقبل القريب . استمع الحضور لعرض من والتر ليفي Walter Levy حول هذا الموضوع ، وكان السؤال الذي يحاول المشاركون الإجابة عنه هو كيفية إدارة عملية إعادة تدوير تدفقات الدولارات النفطية إلى البنوك الأمريكية والبريطانية ، على حد تعبير هنري كيسنجر. كان من بين أبرز المشاركين في الاجتماع :
* من الولايات المتحدة: جايمس اكنز James Akins ( البيت الأبيض ) روبرت اندرسون Robert O.Anderson ( رئيس مجلس إدارة شركة اتلانتيك رشيفيلد النفطية ) ، جورج بول George Ball ( نائب وزير الخارجية الأسبق ، ومدير دار ليهمان برذرز Lehman Bros المصرفية ) ، زبيغنيو برزنسكي ( مستشار الأمن القومي لاحقا ) ، وليام بندي William P. Bundy (عضو مجلس العلاقات الخارجية ، نيويورك ) ، اي. جي. كولادو E.G. Collado ( نائب رئيس شركة اكسون النفطية ) ، آرثر ديين Arthur Dean ( شريك قانوني لدار سوليفان آند كرومويل Sullivan and Cromwell ) ، هنري. جي. هينز Henry J. Heinz II ( رئيس مجلس إدارة شركة هينز Heinz ) ، هنري كيسنجر ( مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض ) ، وولتر ليفي Walter J. Levy ( مستشار نفطي ومعد ورقة بيلدبيرغ ) ، روبرت ميرفي Robert D. Murphy ( من كبار موظفي وزارة الخارجية سابقا ) ، جون تاور John G. Tower ( سيناتور ) ، وكارول ويلسون Carroll Wilson ( أستاذة في جامعة ام. آي. تي ) .
* من بريطانيا العظمى : سير إيريك دريبيك Sir Eric Drake رئيس مجلس إدارة بريتش بتروليوم British Petroleum ، سير دينيس غدينهيل Sir Denis Greenhill مدير شركة بريتش بتروليوم British Petroleum ، دينيس هيلي Denis Healey (عضو برلمان ) ، سير إيريك رول Sir Eric Roll ( نائب رئيس شركة ووربيرغ Warburg وشركاه ) ، وسير ريجنالد مالدينع Sir Reginald Maulding ( عضو برلمان ) .
* من فرنسا: رينيه غداينير دو ليلياك Rene Granier de Lilliac ( شركة البترول الفرنسية ) ، البارون ادموند دي روتشيلد Baron Edmond de Rothschild ( مصرفي ) .
* من المانيا : ايفون باهر Egon Bahr ( وزير وزارة الحزب الاشتراكي الديمقراطي ) ، هيلموت شميدت Helmut Schmidt ( وزير المالية ، الحزب الاشتراكي الديمقراطي ) ، بريجيت برويل Birgit Breuel ( مجلس مدينة هامبورغ ، الحزب الديمقراطي المسيحي ) ، ثيو سومر Theo Sommer ناشر صحيفة دي زييت Die Zeit ، اوتو وولف فون اميرنوجن Otto Wolff von Amerongen (غرف التجارة الألمانية ) .
* من ايطاليا : جيفاني اغنيللي Givanni Agnelli شركة فيات FIAT ، المركيز سيتاديني سيزي ورافائيل جيتروتي Merchese Cittadini Cesi, Raffaele Gitrotti رئيس مجلس إدارة شركة (ENI) ، وراييغو ليفي Arrigo Levi من جريدة لاستمبا La Stampa .
* من السويد : أولوف بالمه Olof Palme ( رئيس الوزراء ) ، ماركوس والنبيرغ Marcus Wallenberg ( رئيس مجلس إدارة سي بانكين ) ، كريستر ويكمان Krister Wickman ( حاكم البنك المركزي ) .
* من هولندا : اف.جي. فيليبس F.J. Philips رئيس مجلس إدارة شركة فيليبس Philips ، غيريت أ. واجنر Gerrit A. Wagner ، وماكس كوهنستامن Max Kohnstamm رئيس مجلس إدارة شركة رويال دتش شل Royal Dutch Shell .
يلاحظ هنا حضور كبار القائمين على الشركات النفطية الأمريكية والأوروبية ، ورجال المال والمصارف ، وهنري كيسنجر ممثلا للبيت الأبيض ، وخبراء الطاقة ومسؤولين سياسيين وحزبيين أوروبيين ، ويكفي القول إن عائلة والينبيرغ السويدية المصرفية ، التي استضافت الاجتماع في فيلتها ، تملك القرار والحصص في مؤسسات مالية وتجارية يتجاوز حجم مبيعاتها السنوية عام ،1997 112 مليار دولار ، وهو رقم لا يتجاوز الناتج القومي الإجمالي لأكبر دولة مصدرة للنفط في تلك السنة فحسب ، بل يزيد على إجمالي المبيعات النفطية لسائر الدول الأعضاء في منظمة أوبك في العام المذكور . وكانت الاستعدادات لاجتماع لجنة بيلدبيرغ في مايو/أيار 1973 قد بدأت قبل ذلك بعدة أشهر .
ففي يناير/كانون الثاني 1973 تم تعيين جورج شولتز George Shultz مساعدا للرئيس نيكسون للشؤون الاقتصادية بالاضافة لمنصبه كوزير للخزانة . يذكر أن شولتز كان أحد الذين شاركوا في إلغاء نظام سعر صرف الدولار الذهبي الثابت طبقا لاتفاقيات بريتون وودز ، كما تم تعيين تاجر سندات سابق في الوول ستريت على رأس لجنة سياسة النفط المهمة مع الاحتفاظ بمنصبة كنائب لوزير الخزانة . وشهد الشهر التالي تشكيل لجنة البيت الأبيض الخاصة بشؤون الطاقة ، والتي ضمت هنري كيسنجر وجورج شولتز George Shultz وجون ايهرليخمان John Ehrlichman ، وقد لعبت هذه اللجنة دوراً كبيراً في التحضير لاجتماع لجنة بيلدبيرغ في مايو 1973 .
اما سيناريو الحرب والدبلوماسية المكوكية التي ستليها ، فقد كان من مسؤولية كيسنجر . وفي حين كان الاعتقاد السائد في وزارة الخارجية بأن على إسرائيل الانسحاب الى حدود 1967 طبقا لخطة روجرز ، فإن كيسنجر كان يفكر بصورة مختلفة . وفي ذلك كتب كيسنجر يقول في كتابه المعنون سنوات الجيشان : " كانت نقطة البداية بالنسبة لي من الطيف العاطفي ... فمع أنني لست باليهودي الملتزم ، إلا أنني لم أستطع أن أنسى حقيقة أن 13 من أفراد عائلتي ماتو في معسكرات الاعتقال النازية . ولهذا لا أحتمل التفكير بتشجيع حصول محرقة أخرى من خلال سياسات حسنة النوايا يمكن أن تخرج عن نطاق السيطرة " .
كما أن أجندة كيسنجر كانت تختلف عن الرئيس نيكسون ، حيث يقول في كتابه: " كان نيكسون يؤمن بالكثير من الأفكار العنصرية المتجذرة في أبناء الطبقة المتوسطة في كاليفورنيا التي ينتمي إليها ، فقد كان يرى أن اليهود يشكلون جماعة متنفذة مترابطة في المجتمع الأمريكي ... وأن هيمنتهم على الاعلام تجعل منهم خصوماً خطيرين . وفوق ذلك ، كان نيكسون يعتقد بأنه يجب إجبار إسرائيل على القبول بتسوية سلمية ، وبأنه لا يسمح لها بتعريض علاقاتنا العربية للخطر " ، ومع أن خطة كيسنجر كانت تختلف عن تفكير الرئيس وعن تصورات وزارة الخارجية ، إلا أنه مع ذلك مضى في تنفيذها ، فكان أن فتح قنوات تفاوضية سرية مع الرئيس المصري أنور السادات دون علم وزارتي الخارجية والدفاع ولا السفارة الأمريكية في القاهرة . كان كيسنجر ينظر الى كبار موظفي الخارجية باعتبارهم مؤيدين للعرب ، وهي نظرة إسرائيل نفسها إليهم . كان كل من هو على خلاف بالرأي مع إسرائيل أو اللوبي اليهودي يُعد حليفا للعرب ، وبالتالي يجب تجنبه .
كان نيكسون وقتها يعاني من فضيحة ووترغيت Watergate ، التي فجرتها الصحافة ، التي قال الرئيس الأمريكي إنها تحت سيطرة اليهود . وقد تفاعلت القضية بفعل معلومات حصل عليها أحد الصحافيين المطلعين ، واستخدم خلالها تكتيكات أقرب إلى عمل أجهزة الاستخبارات . وفي ظل الوضع الصعب للرئيس ، كان كيسنجر في الواقع يتصرف كرئيس فعلي للولايات المتحدة . ومع أنه تجاوز وزارة الخارجية تماماً في محادثاته السرية ، إلاّ أنه كان بحاجة للهيمنة الكاملة على الوزارة لإنجاح خطته القادمة التي ستعقب حرب أكتوبر المخطط لها ، وهي دبلوماسية الخطوة خطوة . وفي سبيل ذلك ، تولى كيسنجر حقيبة الخارجية قبل حرب أكتوبر بأسابيع قليلة ، ليصبح صاحب الكلمة الفصل في سياسة الولايات المتحدة الخارجية ، خاصة في ظل تعاظم الفضيحة التي كانت تحيط بالرئيس نيكسون ، حتى جعلته أقرب إلى الرئيس العاجز .
" حرب أكتوبر ( يوم كيبور ) "
اندلعت حرب السادس من أكتوبر عام 1973 في يوم الغفران ، العطلة الدينية السنوية لليهود ، ولهذا حملت اسم حرب أكتوبر أو يوم كيبور Yom Kippur . نجح المصريون في اقتحام خط بارليف Bar Lev line الدفاعي المنيع على الجانب الشرقي من قناة السويس ، وفي وقت قياسي . كانت القوات المصرية تحارب بمعنويات عالية لاستعادة أراضيها المحتلة ، وخاضت قتالاً جيداً في تنفيذ عملية تم التخطيط لها بصورة جيدة . الواقع أن الجيش المصري ربما قدم أداءً أفضل بكثير مما كان يتوقعه واضعو السيناريو الأمريكي . فقد جاء استسلام القوات الإسرائيلية في منطقة القناة وتدمير أكثر من 300 دبابة إسرائيلية في اليوم الأول للقتال ، ليفتح الجبهة على مصراعيها أمام الجيش المصري .
كان رأي القيادة العسكرية المصرية الاستمرار في القتال حتى الوصول إلى ممري متلا والجدي ، حيث يمكن إقامة خط دفاعي طبيعي ، كما أن الإسرائيليين كانوا يحتفظون بدبابات وأسلحة أخرى في ذلك الموقع بانتظار وصول قوات احتياط ، الأمر الذي اعتبر سبباً آخر لإصرار القيادة العسكرية المصرية على المضي قدماً في الاندفاع باتجاه الممرين وعدم إضاعة الوقت . إلاّ أن تدخل القيادة السياسية تحت إمرة السادات أفشل الخطة العسكرية بصورة كاملة . وبالطبع ، فقد كانت القيادة السياسية تتصرف من وحي ما تم الاتفاق عليه مع هنري كيسنجر في المحادثات السرية . وعندما أصر رئيس الأركان ، الفريق سعد الدين الشاذلي ، على أن الخطوط الجديدة التي اقترحها الرئيس السادات لتمركز القوات المصرية لا يمكن الدفاع عنها ، وأن على القوات المصرية الاستمرار في التقدم باتجاه ممري ميتلا والجدي ، أصدر السادات قراره بطرد الشاذلي . على الجانب الآخر ، أصيب وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه دايان Moshe Dayan بانهيار عصبي ، في حين وجدت رئيسة الوزراء غولدا مائير نفسها أسيرة حالة من الذعر . ومع تدمير الكثير من الدبابات والمعدات الحربية الإسرائيلية ، بدأت الولايات المتحدة المرحلة الثانية من سيناريو الحرب ، وشرعت في تنفيذ جسر جوي مكثف لنقل الأسلحة لإسرائيل .
عندما أبلغ المستشار الألماني ويلي براندت Willy Brandt السفير الأمريكي في بون بأن ألمانيا ستتخذ موقفاً حيادياً حيال الحرب العربية الإسرائيلية ، ولن تسمح للأمريكيين باستخدام القواعد الجوية أو مخازن الأسلحة في ألمانيا في عملية إعادة تسليح إسرائيل ، وجهت واشنطن رسالة شديدة اللهجة ، رافضة أن يكون لألمانيا الحق في اتخاذ موقف حيادي من الحرب ، أو وقف إعادة تزويد إسرائيل بالأسلحة من الأراضي الألمانية . كانت الطائرات الأمريكية المحملة بالأسلحة والمعدات المتطورة المتجهة لإسرائيل تهبط على أراضي سيناء المحتلة بدلاً من المطارات داخل إسرائيل ، وذلك كسباً للوقت ، إلى أن تمكنت إسرائيل من قلب الأوضاع العسكرية في المعركة على الخطوط العسكرية الضعيفة التي وضع السادات القوات المصرية فيها .
بعدها دخلت الحرب مرحلتها الثالثة بهيمنة كيسنجر على المشهد السياسي بالكامل ، حيث بدأت جولاته المكوكية الشهيرة ، التي أدت إلى فرض الأجندة الإسرائيلية كما وضعتها حكومة تل أبيب قبل ذلك بأعوام ، وتحديداً بتاريخ 19 يونيو ،1967 أي قبول إسرائيل الانسحاب من سيناء ومرتفعات الجولان من خلال المفاوضات المباشرة ، مع استثناء الضفة الغربية وغزة ، اللتين ستتركان إلى وقت لاحق باعتبارهما قضية منفصلة ، وهو ما فعله كيسنجر بالتزام تام .
جاءت جولات كيسنجر المكوكية لتستثني الأردن ، الذي جردته قمة الرباط من حق التفاوض حول القضية الفلسطينية وبخاصة مستقبل الضفة الغربية وغزة واللاجئين .
تم إعداد جولة كيسنجر بشكل تُملى فيه الشروط الإسرائيلية على مصر أولاً باعتبارها الدولة العربية الأكبر والأقوى . حرص كيسنجر قبل أي شيء آخر على معرفة كل شيء عن السادات وكيفية التفاوض مع زعيم سلطوي ، من منطلق استيعاب الأبعاد النفسية لشخصيته أكثر من الاعتماد على مهارة مساعديه . وهنا يقول وليام كيسي William Casey مدير " سي. آي. ايه " ، في حديث للصحافي بوب وودوارد Bob Woodward من الواشنطن بوست Washington Post ، إن السادات كان معتاداً على بيع نفسه بنسبة 110% لأي كان ، وإنه كان أقرب إلى عميل لل " سي. آي. ايه " مكلف بقضية محددة . وخلال المفاوضات التي أجراها كيسنجر وصولاً لفك الارتباط بين القوات الإسرائيلية والمصرية ، استخدم الوزير الأمريكي أقصى المطالب الإسرائيلية في اتصالاته مع السادات ، بحيث تم الاتفاق عليها مع الرئيس المصري قبل التقاء الوفدين الأمريكي والمصري ، فقد عرض على السادات اقتراحاً أكثر تشدداً مما كان الإسرائيليون قد قبلوه بالفعل .
وعندما عاد إلى إسرائيل التقى بأعضاء الوفد الإسرائيلي ، الذين أعربوا عن إعجابهم الشديد بنجاح كيسنجر في انتزاع موافقة السادات على وضع أقل من 300 دبابة شرق القناة . وقتها ، احتج رئيس الأركان المصري الفريق عبد الغني الجمصي ، أثناء اجتماع الوفدين الأمريكي والمصري ، بأن حجم القوات المصرية التي سيسمح لها بالمرابطة شرق القناة كان أقل بكثير من الحد الأدنى من القوات اللازمة لاتخاذ مواقع يمكن الدفاع عنها . عندما اعترض الجمصي على الخطة ، كان غير مدرك بأن السادات كان قد أعطى موافقته عليها ، وقد فعل ذلك الفريق الجمصي والدموع تترقرق في عينيه طبقاً لكيسنجر ، وهو الأمر الذي تأكد لاحقاً في مقابلة تلفزيونية أجريت مع الفريق الجمصي الذي قال إن السادات استدعاه إلى مكتبه بعد اللقاء مع كيسنجر ليقول له : " لقد اتفقت مع الدكتور كيسنجر على كيفية التوصل إلى اتفاقية ، وأنت يا جمصي الذي سيوقعها " .
جاء تنازل السادات عن أمور كثيرة دون مقاومة بمثابة مفاجأة للإسرائيليين ، فقد جاء ما حمله كيسنجر إليهم أكبر من توقعاتهم بكثير . واتخاذ قرارات خطيرة تمس حياة شعب ومستقبله أمر لا يمكن تصديقه . فهذا عضو بارز في الوفد الإسرائيلي المفاوض يخاطب كيسنجر بلهجة غير المصدق لما حمله الوزير الأمريكي ، قائلاً : " هل تعني أن السادات لم يبدأ بطلب تواجد 300 دبابة ؟ " ، وعندما أبلغ نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي إيغال الون Yigal Allon كيسنجر بأن إسرائيل” ستقبل الاتفاقية التي أبرمها مع السادات ، انفجر كيسنجر ضاحكاً بالقول : " إنه انتصار كبير أن ننجح بإقناع إسرائيل بالقبول بالاقتراحات التي أعدتها بنفسها " . وعندما طلب آلون إدخال بعض التعديلات ، أجابه كيسنجر : " لا مجال هناك لأي تغيير ، لأن ذلك سيستغرق وقتاً طويلاً يسمح لمستشاري السادات بالضغط عليه للتراجع عما وافق عليه " .
طار كيسنجر إلى الرياض لمناقشة إمكانية رفع الحظر النفطي مع الملك فيصل . عقد كيسنجر مع الملك فيصل اجتماعاً منفرداً دام ساعتين ، بدأها الوزير الأمريكي بعبارات مجاملة في محاولة للتأثير في الملك ، عندما قال له بأنه اطلع على مراسلات الملك مع الرؤساء كيندي وجونسون ونيكسون . وأضاف أنه واستناداً إلى هذه الخلفية يعتقد بأن " للملك ما يبرره في الشعور بخيبة الأمل تجاه السياسة الأمريكية " ، وكان الملك فيصل قد حصل على وعود من جونسون ومن نيكسون من بعده بأن إسرائيل ستنسحب من الأراضي المحتلة . تحدث كيسنجر بشكل عام عندما قال " إنه يشعر بالتفاؤل حيال إمكانية التوصل لاتفاقية ، وإن انسحاباً إسرائيلياً من نوع ما متوقع قريباً " .
ويوثق كتاب " النفط ، الله والذهب " ، لمؤلفه انطوني كيف براون Anthony Cave Brown ، ما دار في اجتماع الملك فيصل وكيسنجر بالقول : " استهل الملك الحديث بينما كان كيسنجر يستمع باهتمام ، حيث وصف الملك فيصل نفسه بأنه مناهض شرس للشيوعية والصهيونية ، واتهم اليهود بالعدوان والتوسع ، مشيراً إلى أنه على يقين بأن اليهود هم وراء الثورة الشيوعية في روسيا ... كان الملك فيصل يؤمن بأن على اليهود ( يعني إسرائيل ) التخلي عن الأرض العربية بما فيها القدس . كان فيصل شخصياً يتمنى الصلاة في المسجد الأقصى قبل أن يموت ، وأن يتجول في باحة الصخرة في القدس من دون أن يطأ أرضاً تقع تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي . ومما قاله الملك لكيسنجر إنه يريد عودة القدس عربية إسلامية من جديد . وعندما أشار كيسنجر إلى أن اليهود يعتبرون حائط المبكى مكاناً مقدساً لديهم ، استنكر الملك مثل هذا القول ، مضيفاً أن بالإمكان إقامة حائط آخر لهم في مكان آخر حتى يمكنهم البكاء أمامه " . وفي ظل مثل هذا الموقف المتصلب من ملك يجلس فوق أكبر احتياطات نفطية في العالم ، وصاحب أجندة تتعارض كلياً مع أجندة كيسنجر ، فقد كان لا بد من الإقدام على شيء ما ، فهل كانت مصادفة أن تم اغتيال الملك فيصل بعد ذلك بفترة قصيرة ؟ .
تحققت النتيجة الرئيسية بالنسبة لمخططيها ، وهي رفع أسعار النفط بنسبة 400% ، وطبقاً لما تم الاتفاق عليه في اجتماع مجموعة بيلدبيرغ في مايو ،1973 أي قبل اندلاع الحرب بخمسة أشهر . ومثل هذا الارتفاع الفلكي في سعر النفط أمر لم يكن بالإمكان السماح بحدوثه لولا رغبة الولايات المتحدة ومصلحتها في المقام الأول . وطبقاً لدراسة أعدها البروفسور جورج. سي. لودج George C. Lodge ، وتشكل جزءاً من المنهج الذي يدرس لطلبة الماجستير في مساق شؤون النفط الدولي بكلية إدارة الأعمال بجامعة هارفارد ، فإن ضمان الإمدادات النفطية للغرب ليس وحده الذي يشكل أحد مطالب الأمن القومي في ما يتعلق بموضوع النفط ، بل هناك سعر النفط أيضاً . وفي أواخر السبعينات ، تم تشكيل قيادة خاصة للتدخل في دول الخليج المنتجة للنفط ، كما جاءت عقيدة كارتر لعام 1980 لتنص على أن نفط الخليج يشكل أهمية استراتيجية بالنسبة للأمن القومي للولايات المتحدة ، وبأن الولايات المتحدة ستستخدم كل الوسائل الضرورية ، بما فيها القوة العسكرية ، لضمان مصالحها والإمدادات النفطية من الدول المنتجة للنفط في الخليج العربي . كانت عقيدة كارتر هذه تكرار لعقيدة لاندسداون Landsdowne الإنجليزية في العقد الأول من القرن العشرين ، والتي نصت على أن الخليج ( الفارسي ) والدول المحيطة تشكل مصدر أهمية كبيرة للإمبراطورية البريطانية آنذاك ، وعليه فلن يسمح لأحد ببسط نفوذه في المنطقة باستثناء بريطانيا العظمى .
الواقع ان خطط الحرب الأمريكية الخاصة بالتدخل العسكري القادم بدأت قبل 12 عاماً من حرب الخليج الأولى . ففي الصفحة رقم 158 من عدد مجلة فورتشين Fortune Magazine ، الصادر بتاريخ 7 مايو ،1979 تحدثت مقالة بعنوان " ماذا لو غزت العراق الكويت ؟ " عن ردة الفعل الأمريكية تجاه غزو عراقي محتمل للكويت . وأعرب معد المقالة عن الرأي الأمريكي القائل إن العمال اليمنيين في السعودية ، ونحو 400 ألف فلسطيني في الكويت ، يشكلون عناصر عدم استقرار في الخليج . وهكذا جاءت حرب الخليج الأولى لتخلص البلدين من عبء مئات الألوف من أبناء الجنسيتين الذين غادروا دول الخليج النفطية بعد الحرب .
بتاريخ 8 يونيو ،1974 وقع وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر اتفاقية خاصة بتشكيل لجنة أمريكية سعودية مشتركة للتعاون الاقتصادي ، وبهدف رئيسي هو التعاون في المجال المالي . وفي هذا السياق ، وقعت وزارة الخزانة الأمريكية اتفاقية مع سلطة النقد السعودية SAMA بهدف " إقامة علاقات جديدة مع الخزانة الأمريكية في ما يتعلق بعمليات الإقراض، وذلك من خلال بنك الاحتياط الفيدرالي نيويورك " ، وبموجب هذه الاتفاقية ، فإن سلطة النقد السعودية ستشتري سندات خزانة أمريكية جديدة مع فترة استحقاق سنة على الأقل .
تأثرت الدول المتقدمة في أوروبا واليابان بالصدمة النفطية التي أعقبت حرب أكتوبر ،1973 إلاّ أن اقتصادياتها المتطورة وحقيقة إنها كانت على علم مسبق بما سيحدث ، حيث تلقت تحذيراً بذلك قبل ستة اشهر من الحرب ، وتحديداً بعد اجتماع مجموعة بيلدبيرغ في مايو ، مكن هذه الدول من استيعاب الصدمة من خلال تعديل سياساتها الاقتصادية بسرعة . وحدها الدول النامية كانت الأشد تأثراً بما حصل ، فقد أوقعتها آثار الصدمة النفطية في مصيدة الديون ، التي لا تزال تعاني منها حتى الوقت الحاضر ، بل إن أغنى الدول النفطية وجدت نفسها ، وبعد شهر عسل قصير ، تنضم إلى نادي الدول المدينة بما فيها السعودية بعد حرب الخليج الأولى . أما الرابحون الوحيدون من خطة كيسنجر تلك فكانوا : الوول ستريت وبنوك نيويورك ولندن والشركات النفطية العملاقة .
" الدولار عملة المبيعات النفطية "
في عام ،1975 وبموجب مبادرة من إيران والسعودية ، وافقت منظمة الأقطار المصدرة للنفط أوبك على اعتماد الدولار الأمريكي العملة الوحيدة لمبيعاتها النفطية ، بحيث لم تعد تقبل أي عملات أخرى بما في ذلك الجنيه الاسترليني . كان ذلك في الواقع بمثابة استبدال لمعيار الذهب الذي تم الاتفاق عليه في قمة بريتون وودز كأساس لنظام الصرف العالمي ، بنظام صرف الدولار النفطي غير المستقر ، الواقع تحت هيمنة بلد واحد هو الولايات المتحدة والنخبة المالية الأمريكية في الوول ستريت . وهكذا تم استبدال معيار الذهب الأصفر بمعيار الذهب الأسود .
وكانت الولايات المتحدة قد اعترضت بشدة على مقترح للمفوضية الأوروبية عام 1974 باعتماد الذهب أساساً في الميزان التجاري الداخلي لدول المجموعة الأوروبية ، حيث قيمت سعر الذهب بحدود 150 دولاراً للأونصة . وقتها اعتبرت الولايات المتحدة المشروع الأوروبي بمثابة محاولة لإضعاف دور الدولار ، وتوجه وكيل وزارة الخزانة بوول فولكر وقتها إلى أوروبا لإبلاغ الاعتراض الأمريكي على محاولة إعادة إدخال الذهب إلى النظام النقدي بأي حال . وعندما أصبح فولكر رئيساً للاحتياط الفيدرالي ( البنك المركزي الأمريكي ) عام ،1979 كشف عن السياسة النقدية الجديدة للاحتياط الفيدرالي ، وهي السياسات نفسها التي تبنتها بريطانيا أيضاً خلال سنوات مارغريت تاتشر Margaret Thatcher . المهم هنا حقيقة أن أسعار الفائدة ، في ظل فولكر ارتفعت بنسبة 20% ، الأمر الذي زاد من تفاقم عبء الديون لدى الدول النامية التي تقترض الدولار لتسديد فاتورتها النفطية وخدمة ديونها لدرجة يصعب احتمالها . ومن هذه النقطة ، بدأت أزمة الديون التي لا تزال تعاني منها الدول النامية حتى يومنا هذا .
وجدت معظم الدول النامية نفسها في مواجهة الزيادة الكبيرة التي طرأت على أسعار وارداتها النفطية ، وبنسبة 400% ، وذلك في وقت لا تملك فيه المال لتسديد فاتورتها النفطية . وهكذا شهد العالم ظهور ما عرف بمصيدة الديون ، ومعها " الاقتصاد العالمي الجديد " ، وهو اقتصاد طفيلي محفوف بالمخاطر ، يعتمد في الأساس على المضاربة والهيمنة على موارد الآخرين . والآن ، وبعد أن ارتبط النفط بالدولار ، فإن الولايات المتحدة تستطيع طباعة ما تشاء من الأوراق النقدية ( بدون غطاء وبحيث لا تكلف ورقة المئة دولار أكثر من خمسة سنتات ) ، وبإمكان البنوك إقراض الدول النامية بالدولارات هذه ، مع الكثير من الشروط بالطبع ، وتكون النتيجة أن هذه الدول تعجز عن سداد ديونها في الوقت المحدد ، وعندها يتدخل صندوق النقد الدولي بشروطه المفروضة لإعادة جدولة الديون ، لتجد هذه الدول نفسها وقد فقدت استقلالية قرارها الاقتصادي والسياسي ، وأصبحت أسيرة هاجس تسديد الفوائد واستمرار دورة الديون إلى الأبد .
كان من حصاد ارتفاع أسعار النفط بنسبة 400%، ارتفاع فاتورة الطاقة في بلد مثل ألمانيا إلى 17 مليار مارك عام 1974. ولأن الزيادة الفلكية في الأسعار لم تطل الفاتورة النفطية فقط ، بل تعدتها إلى سلع أخرى ، منها سائر المنتجات الكيماوية مثل السماد ، فإن العجز في مدفوعات الدول النامية ارتفع إلى 35 مليار دولار عام ،1974 اي بمعدل أربعة أضعاف ما كان عليه في العام السابق ، وذلك طبقاً لإحصائيات صندوق النقد الدولي . وعلى سبيل المثال ، فإن الهند التي سجلت نتائج إيجابية في ميزانها التجاري عام ،1973 جاءت الفاتورة النفطية في العام التالي ، والتي وصلت إلى ضعفي حجم احتياط التبادل المتوفر ، والبالغ 629 مليون دولار ، لتسجل عجزاً في ميزانها التجاري .
الواقع أن الهيمنة على النفط والسيطرة على الاحتياطات النفطية والإنتاج والأسعار ، أصبحت قضايا أمن قومي بالنسبة للولايات المتحدة ، وتحول النفط إلى مصدر رئيسي من مصادر رأس المال والدخل للنظام المصرفي الأنغلو أمريكي ، في حين تسببت الفاتورة النفطية وسياسة الهيمنة الأمريكية بعجوزات كبيرة في معظم الدول التي تقترض من البنوك الأميركية ، التي تمنح الدولارات التي يتم طباعتها من دون غطاء حقيقي سوى " كلمة الشرف " الأمريكية ... وهذه الكلمة ، وكما أظهرت تجارب عام ،1971 قد تفقد قيمتها بسهولة وبقرار أحادي من الولايات المتحدة نفسها متى رأت ذلك . أما العملات ، فهي تحت هيمنة عدد ضئيل من دور المال التي بمقدورها الاتفاق على تحرك مشترك من شأنه رفع أو تحطيم أي اقتصاد ، كما حصل على أرض الواقع خلال أزمة جنوب شرق آسيا في التسعينات .
" اعتراض أمريكي على محطات الطاقة النووية "
تعتقد الولايات المتحدة أن انتشار الطاقة النووية سينزع ورقة ضغط كبيرة من يدها ، فكان لا بد من التحرك ضد توجه الدول للاعتماد على الطاقة النووية كبديل جزئي ، من شأنه أن يخفف الاعتماد الكبير على النفط ، في وقت تحتاج فيه الولايات المتحدة للدولار النفطي من الدول المنتجة للنفط ، والدولارات من الدول المستهلكة له ، وبخاصة إذا ما كانت من أبرز هذه الدول ثاني وثالث أكبر اقتصاديات العالم . وهنا يبرز دور منظمات الخضر ، التي برزت وانتشرت في أنحاء العالم بدعم من الصناعة النفطية وبارونات المال ، بهدف رئيسي هو محاربة انتشار المحطات النووية . فهذا روبرت أندرسون Robert Anderson من شركة أطلانطيك ريتشفيلد أويل Atlantic Richfield Oil Co ، يتبرع بالملايين من الدولارات للمنظمة التي تنشط في مجال منع إقامة المحطات النووية . ففي ألمانيا ، واجه البرنامج النووي للطاقة هجوماً شديداً من منظمة تدعى أصدقاء الأرض ، وكانت الخطط الألمانية تقضي بإقامة 20 محطة نووية لإنتاج الطاقة كان يفترض أن يتم إنجاز نصفها مع أوائل الثمانينات .
وفي اسبانيا ، كانت خطة التحول إلى الطاقة النووية في عام 1975 تقضي بإنشاء 20 محطة بحلول عام 1983 . بل إن بلداً نامياً مثل باكستان في عهد الرئيس بوتو Bhutto كان لها برنامجها النووي المدني بالتعاون مع فرنسا . وقد نجحت منظمات الخضر وغيرها من المنظمات الممولة من قبل بارونات المال والشركات النفطية في تعطيل العديد من هذه البرامج بحجة الأمن والسلامة ، علماً بأن التكنولوجيا النووية آمنة إلى حد كبير ، وأكثر أمناً بالتأكيد من قواعد الناتو التي تخزن القنابل النووية والقاذفات الأمريكية التي تحمل هذه القنابل .
وعندما قرر رئيس الوزراء ذو الفقار علي بوتو بناء مفاعل نووي ( الذي اكتمل انشاؤه عام 1976 ) ، مارس كيسنجر ضغوطاً على فرنسا وباكستان لوقف المشروع ، غير أن بوتو لم يتراجع عن خططه . كانت النتيجة تدبير انقلاب أطاح بحكومة بوتو بقيادة الجنرال ضياء الحق . وقبل إعدام ذو الفقار بوتو ، تحدث عن التهديد الذي تعرض له من كيسنجر بالقول : " الدكتور كيسنجر يتمتع بذهن وقاد ... قال لي ذات مرة بأنني لا يجب أن أستهين بذكاء الاستخبارات الأمريكية بالقول إن باكستان بحاجة إلى مفاعل نووي لتلبية احتياجاتها من الطاقة ، أجبته بأنني لا أستهين بالاستخبارات الأمريكية بالحديث عن احتياجات باكستان من الطاقة ، إلا أنه بدوره لا يجب أن يستهين بسيادة باكستان وتمسكها باحترام النفس بالحديث عن المفاعل ... وبذلك حصلت على حكم بالموت " .
" عقيدة كارتر والقيادة المركزية "
كانت الولايات المتحدة قد أعلنت عن عقيدة كارتر أول مرة في أوائل الثمانينات ، وهي العقيدة القائمة على مبدأ الاستخدام العسكري في الخليج من أجل حماية مصالحها في الدول المنتجة للنفط . ومن أجل ذلك أوجدت الإدارة الأمريكية ما يعرف بالقيادة المركزية .
كان من بين المسؤوليات الرئيسية للقيادة العسكرية الجديدة تأمين حماية منشآت شركة أرامكو ونشاطها في السعودية . وفي عام 1983 أخذ النشاط العسكري الأمريكي في الخليج بالاتساع . فقد عرضت الولايات المتحدة على الكويت والعراق توفير الحماية لناقلات النفط التي ترفع العلم الكويتي خلال الحرب الإيرانية العراقية ، وقامت بنشر قوة بحرية كبيرة في الخليج تحت مبرر مرافقة الناقلات . وضمن هذه العملية التي حملت اسم " الإرادة الصدوق Earnest Will " نشر الأمريكيون 24 قطعة بحرية رئيسية و 16 ألف جندي في الخليج . وبعد تولي منصبه على رأس القيادة المركزية ، التحق الجنرال شوارزكوبف Schwarzkopf بدورة إعداد في كلية الخدمات الأجنبية في أرلنغتون فرجينيا .
كان شوارزكوبف يشعر بعظم المهمة الملقاة على عاتقه ، وهي توفير الحماية لإمدادات النفط القادمة من الخليج ، والتي تشكل أكثر من ثلثي حجم استهلاك اليابان السنوي من النفط ، و 10% من حجم استهلاك الولايات المتحدة ، و 30% من إجمالي استهلاك أوروبا الغربية ، كما تضم المنطقة أكثر من ثلثي الاحتياط العالمي من النفط. كان أول ما قام به الجنرال شوارزكوبف هو دراسة تاريخ المنطقة وسيكولوجية الرئيس العراقي صدام حسين ، وتركيبة الماكينة العسكرية العراقية . وطبقاً لما جاء في كتاب " النفط ، الله والذهب " ، فإن الكويت استفزت صدام بمطالبتها الملحة بتسديد ما يدين به للكويت من قروض الحرب التي زودته بها مع السعودية لشن حربه على جمهورية إيران الإسلامية ... وفي ما يتعلق بالتورط الأمريكي في الصراع ، فقد برزت مزاعم بأن الإدارة الأمريكية خولت السفيرة أبريل غلاسبي April Glaspie في بغداد بإيصال رسالة إلى صدام ، مؤداها أن الولايات المتحدة لا علاقة لها بالنزاع الحدودي مع الكويت ، الأمر الذي اعتبره صدام بمثابة ضوء أخضر للتحرك ضد الكويت ... وهناك من ذهب إلى حد القول بأن الولايات المتحدة تآمرت لاجتذاب صدام إلى فخ بهدف تدميره . ماذا عن السعودية ؟ هل كانت عرضة لخطر الهجوم العراقي ؟ يجيب عن هذا التساؤل السفير الأمريكي السابق في الرياض جايمس أيكنز James Akins بالنفي .
يعتقد المخططون السياسيون الأمريكيون بأن الموقع الجغرافي لحقول النفط كان وليد حادثة جيولوجية طارئة ، وبخاصة نفط الشرق الأوسط ، وبأن من حق الولايات المتحدة التحرك لتصحيح هذا الوضع . وبالنسبة لهؤلاء ، فإن تكنولوجيا النفط الحديثة هي اختراع أمريكي في المقام الأول ، وبأن جيولوجيي النفط الأمريكيين والتكنولوجيا والأموال والشركات الأمريكية هي التي حددت وجود النفط وعملت على استخراجه من باطن الأرض ، وبأن الولايات المتحدة كانت الأكثر حاجة له . كانت لعب الخطط الحربية التي خطط لها البنتاغون قد نشرت قبل الغزو العراقي للكويت بسنوات طويلة ، فقد تحدثت مجلة فورتشن Fortune Magazine في عددها الصادر بتاريخ 7 مايو 1979 عن سيناريو حرب محتملة ، تحدثت فيه عن ردة الفعل الأمريكية المحتملة في حالة تعرض الكويت لغزو عراقي على خلفية النزاع الحدودي بين البلدين .
ففي الصفحة 158 من العدد المذكور ، ورد تحت عنوان " ماذا لو غزت العراق الكويت ... " القول : " سيكون باستطاعة القوات العراقية التي تستخدم الأسلحة السوفياتية اجتياح أي من البلدين ؛ الكويت والسعودية بسهولة . وفي حالة طلب المساعدة الأمريكية فستأتي على شكل ضربات جوية تكتيكية في البداية ، تستهدف سلاحي الجو والمدرعات وربما المنشآت النفطية العراقية . أما إخراج القوات العراقية من الكويت فسيحتاج إلى انزال المارينز من الأسطولين السادس والسابع وقوة مشاة من الفرقتين ال 87 و 101 " . ونصت الخطة ، كما تصورها الكاتب ، على وجود " جيش في السماء " لنقل القوات والمعدات إلى الصحراء العربية ، بما في ذلك طائرات سي 15 العملاقة السبعين ، والسي 141 الأصغر وعددها 234 طائرة ، بالإضافة إلى 700 طائرة للتزويد بالوقود في الجو من نوع " كي. سي 135 " كانت هذه هي الخطة ذاتها ، التي تم تطبيقها في عاصفة الصحراء بعد 12 عاماً من ظهورها في مجلة فورتشن .
الواقع أن ديمقراطية الدولار استعدت بفريق كامل لإدارة أجندتها الخاصة بالعالم الجديد بدءاً بالهجوم على العراق . وكان أغلب أعضاء الإدارة الأمريكية بمن فيهم الرئيس بوش الأب من المؤسسة الاستخبارية الأمريكية والأمن القومي ، فكان الرئيس بوش مديراً سابقاً ل C.I.A ، وكان مستشار الأمن القومي أدميرالاً ، وكان رئيس هيئة الأركان الجنرال كولين باول Collin Powell .
" حرب الخليج الأولى "
وقع الغزو العراقي للكويت ، البلد النفطي الذي ينتج 1.2 مليون برميل نفط يومياً آنذاك ، على خلفية اتهامات عراقية للكويت بالتآمر على الاقتصاد العراقي ، من خلال ضخ كميات تتجاوز حصتها المحددة من جانب أوبك وبيعها في الأسواق بأسعار أقل من المعمول بها في السوق ، لتسبب بذلك خسائر للعراق تصل إلى مليار دولار سنوياً لكل دولار في سعر البرميل أقل من السعر المعلن لأوبك ، كما أن الكويت ، وطبقاً للاتهامات العراقية ، كانت تسرق النفط العراقي من خلال الحفر الأفقي لنفط حقل الرميلة الحدودي ، الذي يقع في معظمه داخل الأراضي العراقية . وهناك من يتحدث عن النظرية القائلة بأن إغراق الأسواق العالمية بالنفط قبل حرب الخليج مباشرة كان بهدف إعداد الأسواق العالمية لمرحلة محتملة من الحظر النفطي ، الذي سيفرض على النفط العراقي الكويتي للحيلولة بذلك دون حدوث زيادات حادة في سعر النفط . مثل هذه الخطوة كانت ، وكما يتضح الآن ، بمثابة مؤشر آخر على وجود مخطط لما قبل الغزو العراقي يفترض حتمية حدوثه . كما أن الخطط الأمريكية للتدخل كانت معدة سلفاً وجاهزة للتنفيذ . وقد استخدمت الولايات المتحدة الأمم المتحدة كمطية مناسبة لتنفيذ خططها ، من خلال استصدار القرارات اللازمة للتدخل تحت راية الشرعية الدولية . وهنا لا بد من القول إنه كان أجدر بالولايات المتحدة استخدام هذا النفوذ لوقف الغزو العراقي قبل أن يحدث ، وهو أمر كان بمقدورها لو هي أرادت ذلك .
كانت حرب الخليج الأولى الفرصة المواتية لتمكين الولايات المتحدة ، ليس من السيطرة على نفط المنطقة فحسب ، بل كانت فرصة لاستخدام الأمريكيين كامل مخزونهم الفائض من الأسلحة ، التي كانت معدة لاستخدام حلف شمال الأطلسي في مواجهته المحتملة مع حلف وارسو المنحل ، سواء جاء هذا الاستخدام في المعركة أو من خلال بيع أجزاء منه لدول الخليج بعد الحرب . وهكذا ، وتحت المظلة الدولية ، ذهبت الولايات المتحدة للحرب ضد أحد بلدان العالم الثالث ، بلد لا يزيد عدد سكانه على 17 مليون نسمة ، وتفوز عليه ( كما لو كان هذا الأمر يحمل مفاجأة لأحد ) . بعدها قيل للشعب الأمريكي إنه وبعد هذا الانتصار العظيم ، أصبح باستطاعته الآن الخلاص من عقدة فيتنام التي فقد فيها أكثر من 250 ألفاً من أبنائه بين قتيل ومصاب .
مع نهاية حرب الخليج عام ،1991 كان الجميع في الشرق الأوسط والعديدون ممن انضموا للحملة الأمريكية من الخاسرين ، بما في ذلك أسعار النفط التي بدأت تتهاوى . ولعل أحد أكثر النتائج غير المعلنة التي آلت إليها حرب الخليج الأولى ، سياسة الخطوة خطوة التي انتهجتها الولايات المتحدة ، والتي دفعت بالدول العربية المنتجة للنفط إلى الانضمام لنادي الدول المدينة ، بدءاً من كبرى هذه الدول وهي السعودية . ومن أجل تسويق فكرة الحرب لدى الدول العربية الأخرى ، بما فيها سوريا ، خرج وزير الخارجية جايمس بيكر James Baker بفكرة اقامة " صندوق الشرق الأوسط للتنمية " ، برأس مال سنوي يصل إلى 15 مليار دولار تدفعها الدول العربية النفطية ، بهدف معلن هو توزيع أعدل للثروة في العالم العربي ، وهي الفكرة التي كانت مصدر اجتذاب للمشاركين في اجتماع دمشق ، وهي دول التحالف العربي في حرب عاصفة الصحراء . ومع ذلك ، فإن فكرة الصندوق وما نتج عن اجتماع دمشق من قرارات ، تبخرت بعد الحرب حتى قبل أن يجف الحبر الذي كتبت فيه . ومن المفارقات أن الامبراطورية البريطانية استخدمت جيشها من الهنود في بداية القرن العشرين لاحتلال العراق إبان الحرب العالمية الأولى ، أما الإمبراطورية الأمريكية فاستعملت جيوشاً عربية " كهنودها " ضد العراق في نهاية القرن العشرين .
جاءت فواتير الحرب التي قدمتها الولايات المتحدة للدول العربية المنتجة للنفط ، وما أعقبها من فواتير شراء الأسلحة الأمريكية الفائضة عن حاجة أمريكا والناتو ، تحت مبرر استمرار التهديدات العراقية الوهمية ، لتفرغ خزائن المال في هذه الدول ، بحيث لم يعد لديها ما تهبه أو تعيد توزيعه على الدول العربية الشقيقة المشاركة في التحالف ضد العراق . استفاق السعوديون على استنفاد الحرب للأصول النقدية للمملكة ، حيث اضطرت الحكومة لإلغاء العشرات من المشاريع الرئيسية ، كما شهدت سوق الأوراق المالية السعودية حالة انهيار ، وسارع المواطنون المذعورون إلى سحب أرصدتهم من البنوك التي فقدت بذلك 11% من إجمالي الودائع فيها . ووجدت الحكومة نفسها مجبرة على ضخ 4.4 مليار دولار في النظام المالي للحيلولة دون انهياره ، كما تم إنفاق مثل هذا المبلغ تقريباً على عملية إعادة توطين السعوديين الذين فروا من المنطقة الشرقية خلال الحرب ، واستضافة أكثر من 200 ألف كويتي ممن تدفقوا على السعودية بعد احتلال بلادهم ، بالإضافة إلى تمويل خروج العمال اليمنيين الوافدين من البلاد . وهكذا ، ومن أجل إعداد المملكة للحرب ، كانت السعودية قد تكبدت ما لا يقل عن 13 مليار دولار مع نهاية 1990. كما أن السعودية كانت مطالبة بدفع 17 مليار دولار أخرى كلفة تخزين الأسلحة القادمة استعداداً لحرب تحرير الكويت .
وكانت الحكومة السعودية قد وافقت في سبتمبر/ أيلول 1990 على تحمل الكلفة الكاملة لتمركز القوات الأمريكية التي ستشارك في عملية عاصفة الصحراء ، والتي تقدر بـ 500 مليون دولار شهرياً . وعندما اندلعت الحرب تعهدت المملكة بـ 5.13 مليار دولار إضافية لتغطية كلفة قوات التحالف حتى نهاية ما0رس/ آذار ،1991 بالإضافة إلى المساهمة بنحو 4 مليارات دولار في رأس مال الصندوق الخاص بمساعدة دول مثل تركيا على تحمل تبعات الحظر الدولي المفروض على العراق . كما دفعت السعودية والكويت 5.1 مليار دولار إلى مصر ، بالإضافة إلى شطب ديونها على القاهرة ، والبالغة 6.6 مليار دولار ، ودفعت مليارات أخرى إلى سوريا . وفي أقل التقديرات ، فإن حرب الخليج كانت قد استنفدت 9.28 مليار دولار من الخزينة السعودية بنهاية ،1990 ليرتفع الرقم بحلول أغسطس/ آب 1991 إلى 64 مليار دولار ، مع أن بعض المصادر المطلعة تضع كلفة الحرب على السعودية عند حدود 80 مليار دولار ، وهو رقم أكده وزير الداخلية السعودي الأمير نايف بن عبد العزيز في لقاء صحفي في الرياض بتاريخ 26 سبتمبر ،2002 طبقاً لوكالة الأنباء الفرنسية .
قبل الحرب كان معدل الإنتاج اليومي من النفط بحدود 6.5 مليون برميل ، وبعد توقف تدفق النفط العراقي على الأسواق العالمية بسبب الحظر ، ارتفع معدل الإنتاج إلى 7.8 مليون برميل يومياً ، ذهب 300 ألف برميل يومياً منها إلى قوات التحالف . الواقع أن معظم المكاسب المالية الناجمة عن الزيادة في أسعار النفط خلال الأزمة لم تذهب لخزائن الدول العربية المنتجة للنفط ، بل لجيوب سماسرة نيويورك ، باعتبار أن نفط السعودية وغيرها من الدول العربية النفطية كان يباع بموجب عقود طويلة الأجل ، حيث لم يكن يعود على الخزينة السعودية سوى 28 دولاراً للبرميل من أصل 40 دولاراً ، وهو السعر الذي كان يباع فيه في بورصة نيويورك التجارية .
وفي حين أنه لا يكشف عن الأرقام الفعلية لموجودات سلطة النقد السعودي ( SAMA البنك المركزي السعودي ) ، فإنه ، وطبقاً لتصريحات وزير البترول السعودي السابق أحمد زكي اليماني ، فإن موجودات SAMA قبل الحرب كانت بحدود 25 مليار دولار . وعليه ، فإنه يمكن القول بأن حرب الخليج الأولى مسحت موجودات SAMA بالكامل . وفي سنة ،2003 كان إجمالي الدين الداخلي السعودي قد وصل إلى 170 مليار دولار . وطبقاً لتقارير صحفية نشرت في 14 يوليو/ تموز 2002 ، فإن المستثمرين السعوديين فقدوا مالا يقل عن 160 مليار دولار في انهيار البورصات العالمية عام 2002 . كل ذلك في الوقت الذي تراجعت فيه معدلات الدخل للفرد السعودي خلال السنوات العشرين الماضية من 600.28 دولار إلى 800.6 دولار .
ومن تبعات الحرب على دول الخليج كذلك ، المصاعب الكبيرة التي تعرض لها النظام المصرفي الخليجي ، فقد تم سحب 7.13 مليار دولار من البنوك الخارجية في البحرين ، أي ما يعادل 21% من إجمالي موجوداتها . وفي حين تعطل نشاط البنوك الكويتية تماماً خلال الاحتلال ، فإن مجموع السحوبات في بنوك الإمارات ارتفع إلى 25% ، وبدأ رجال المصارف الأجانب يتعاملون مع النظام المصرفي الخليجي بحذر شديد .
وقبل الحرب ، كانت دول الخليج مكان عمل لمئات الآلاف من المغتربين العرب ، الذين كانت تحويلاتهم المالية تشكل مصدراً رئيسياً للعملة الصعبة لبلادهم ، وجاء توقف هذه التحويلات ليسبب الكثير من المصاعب لبلدان مثل اليمن والأردن والسودان . وهكذا ، وبدلاً من مشروع " تنمية الشرق الأوسط " ، الذي وعدت به الولايات المتحدة قبل الحرب ، زادت معدلات الفقر والبطالة وسوء توزيع الثروة ، إضافة إلى اتساع رقعة الخلافات والانقسامات العربية التي ترقى إلى حرب باردة عربية .
" حرب أفغانستان ونفط بحر قزوين "
جاءت الحرب على أفغانستان عام 2001 تنفيذاً للمرحلة الثالثة من استكمال الهيمنة على النفط الدولي والسيطرة على آخر أكبر احتياطي للنفط في منطقة بحر قزوين . وكان أفضل وصف لهذه المرحلة ذلك الذي أوردته مجلة البيزنس ويك Busniness Week بالقول : " تسارعت الجهود الأمريكية لإقامة نفوذ واسع للولايات المتحدة في آسيا الوسطى بعد 11 سبتمبر/ أيلول لتأخذ الشكل التالي : قبل عام فقط ، لم يكن هناك جندي أمريكي واحد في المنطقة ، واليوم يعمل نحو أربعة آلاف أمريكي على بناء قواعد لاستضافة الوجود الأمريكي عبر المنطقة الممتدة بين قيرغيزستان على الحدود الصينية وجورجيا على
0 88: dm4588a03ktc88z05.html
إرسال تعليق